ثقافةصحيفة البعث

الدراما والمجتمع السوري.. من يؤثر ومن يتأثر؟!

حسن فخور

حينما أغلقتْ شركات الإنتاج كاميراتها أمام حكايا السيناريست الراحل حسن سامي يوسف، وأقفلتْ خزائنها على نصوصه المُنجَزة، كتب يخاطب جمهوره مطَمئِناً: “لن أكتب يوماً مسلسلاً تلفزيونياً لا يشبهُنا، حتى لو أصبحتُ عاطلاً عن العمل”، وهو الذي يرى أنّ الدراما تراكم عددٍ كبيرٍ من الحقائق المختلفة، لا تكرارَ الحقيقةِ الواحدة عدداً كبيراً من المرّات، فهل الدراما السورية اليوم لا تشبه مجتمعها حقاً أم أنّ الحقائق اختلفت وتراكمت بعد الحرب؟.
لم يكن المجتمع السوري طوباوياً والحرب حولته إلى مجتمعٍ متوحش، إذ إنه يخفي جوانب عنيفةً ظهرت مع الصدمة التي أصابت القيّم، تقول أستاذة التمثيل والسينوغرافيا الأستاذة رفيف الساجر، نتيجة الحرب التي سبّبت خللاً بالمنظومة المجتمعية، فالأزمات تؤثر بالقيّم والمعايير الأخلاقية والاقتصادية، لكن التحول الذي حدث في الدراما هو نتيجة تطور اهتمامات المجتمع وظروفه بالدرجة الأولى، أما القول إنّ الدراما اليوم لا تشبه المجتمع السوري، فهذا هروبٌ من واقعنا العنيف، والذي ضاعفت الحرب مشاكله من وجهة نظرها.
ويشارك المخرج باسم السلكا أستاذة المعهد العالي للفنون المسرحية الرؤية ذاتها؛ إذ يؤمن بأنّ الدراما السورية دخلت بمخاضٍ قاسٍ منذ بداية الحرب، أنهك الواقع المعيشي بجوانبه العديدة وانعكس على الواقع الفني، وزاد الأمر تعقيداً وفاة أسماءَ كبيرةٍ من الفنانين في سنوات الحرب الأولى، وهجرة آخرين عن البلاد من كتّاب ومخرجين وممثلين، ما خلق هوةً كبيرة بين الزمن الجميل للدراما وواقعها اليوم، على الرغم من نجاح تجارب شابهت الواقع خلال الحرب، مستشهداً بمسلسل “شبابيك” الذي شارك بصناعته، بالإضافة إلى أعمالٍ أخرى كـ “الندم”، و”ضبوا الشناتي”، و”سنعود بعد قليل”، فالدراما برأيه لا تبالغ بنقل الواقع الذي كان متوازناً إلى حدٍ ما قبل الحرب، هذا التوازن كانت تحققه الأعمال نتيجة إسقاط الواقع على حكاية العمل، أما المشهد العام الذي تنقله الدراما اليوم فغير منطقي؛ لذا ينتابنا إحساسٌ بالمبالغة، على الرغم من أنّ وقع الأخبار أقسى بكثير، فداحة ما تمر به المنطقة لا يرى “السلكا” عملاً استطاع تجسيد آلامه.
ويؤكّد الفكرة ذاتها السيناريست محمد العاص؛ إذ يرى أن المسلسلات السورية التي أُنتِجت بعد الحرب غالباً ما تعكس تغيرات معينة في المجتمع، لكنها قد لا تمثل الواقع بشكل دقيقٍ دائماً، منوهاً بأنّ الحرب والانفتاح أثّرا على المجتمع بشكلٍ كبيرٍ؛ ما أدى إلى تغييراتٍ في القيم والعادات، انعكست على المسلسلات التي تحاول تسليط الضوء على هذه التغيرات وتوثيقها، بينما يركّز بعضها على تقديم محتوى ترفيهي يتماشى مع متطلبات السوق بغضّ النظر عن مدى تشابهه مع الواقع، وقد يكون هناك نوعٌ من التباين -والكلام للعاص- بين ما تعرضه بعض المسلسلات وما يعيشه الناس فعلياً؛ نتيجة توجه صنّاع المحتوى، وتأثير الأسواق، ووجود محاولاتٍ لإبراز جوانب معينة من التغيّرات غير المألوفة التي طرأت على المجتمع.
يختلف الصحافي والناقد الفني عامر فؤاد عامر بوجهة نظره؛ إذ يعتقد بأن المجتمع لا ينفصل عن قيمه الأساسية حتّى لو مرّ بأحلك الظروف، فالقيمة والفضيلة لا تتحدّد بعمر زمني أو ظرفٍ راهن يعمل على تغييرها فيقلب الأمور رأساً على عقب، وأنّ الدراما السورية حاولت اصطناع مرآة لها على أساس أنّها مرآةٌ للواقع، لكنها لم تنجح باستخدام هذه الأداة كما يجب؛ إذ ركزت على بقعٍ سوداء قد تكون موجودةً بنسبة قليلةٍ، لكنها لا تعمّم على كامل المجتمع، وهنا وقعنا في فخ التشوهات الفكرية التي قدّمها الكتّاب وأغرقوا فيها، وفي الجانب الآخر من دوافعهم كان السعي نحو المال هو دافع أكثر معنىً لديهم من دافع الكتابة الدرامية.
وبالسؤال عن العنف والتنشئة الدراميّة، ترى أستاذة النقد المسرحي واختصاصية الدعم النفسي أنّ “سلوك العنف موحّد عند الجنس البشري، إذ لا يمكننا القول إن المجتمع ليس عنيفاً، والصورة مكرّسةٌ في الدراما فقط، لكن علينا أن ندرك هدف العنف إذا ما كان غايةً درامية أم جذب أكبر عددٍ من المشاهدات؛ لذا يجب أن نعوّل على وعي المجتمع وانتقائيته، وعلى صنّاع العمل كأصحاب رسالةٍ وموقف، فالتنشئة الاجتماعية بمفهوم خلق جيلٍ وفق معاييري الخاصة أمرٌ خاطئ وغير ممكن، فنحن لا نستطيع تطبيق معاييرنا على الجيل الجديد، لأن المجتمع في حركة دائمة، والحرب كانت حالةً تشبه الزلزال، تزلزلت القيّم والعلاقات، تغيّر شكل العائلة، دخلت التكنولوجيا، فالدراما ليست رايةً بيضاء ناصعة، بل ألوان عدة متداخلة؛ لذا علينا دراسة المجتمع حتى نتمكن من خلال الدراما أن نغيّر أو نضيف قيمةً ما”.
ويعتقد مؤلّف “ليل ورجال” أنّ تصوير العنف كوسيلةٍ لتحقيق الأهداف النبيلة قد يؤدي إلى تحريف مفهوم البطولة، ويخلق جيلاً يميل إلى العنف؛ لذا يؤكّد العاص ضرورة التعامل الحذر مع هذه القضايا الدرامية من خلال ضمان وجود توازن بين تقديم العنف كجزءٍ من القصة وتعزيز القيم الأخلاقية التي تنبذه؛ إذ تمتلك الدراما برأيه القدرة على تشكيل القيّم والتأثير في السلوكيات إذا ما قُدِمت بمسؤوليةٍ ووعي.
تأثير الصورة عميق جداً في وجدان الجماعة، الأمر الذي يقلق الصحافي الثقافي من تصدر مشاهد العنف، والترويج لها وتكريسها الذي يرفع نسبة مشاهدتها، ويساهم في دمار الأجيال الجديدة التي اصطبغ في ذهنها أنّ “الغاية تبرر الوسيلة”، ويرى عامر” أنّ الطامة الكبرى عندما يعتقد جيل كامل لا يقرأ بأن ما يراه ويتأثر به هو الحقيقة، بعيداً عن القيم النبيلة التي كانت الدراما السورية تقدمها عبر مسلسلاتها القديمة والتي تمتزج بلغة الحب في معظمها، فأثر الدراما باعتقاده ليست دراسةً أو نظريةً عابرة، إذ إنّ كل مشهد يحمل جريمةً أو ترويجاً للهبوط بالإنسان هي مساهمة فاعلة من فكر الكاتب والمخرج للذهاب بالمتلقي نحو الحضيض، سواء أعلم ذلك الكاتب بفعلته أم لم يعلم، فالمشكلة تبدأ من الكلمة والنص.
لكن أين الدراما من مسؤولياتها الاجتماعية؟ سؤال تجيب عليه الساجر بتأكيد ضرورة معرفة ماذا نريد من أي عملٍ درامي قبل إنتاجه، تقول: “أن تنحصر مسؤولية صنّاع الدراما أمام الأجيال الذين شهدوا كل جوانب الحرب بتضليلهم عن واقعية حدوثها مجرد كذب، وعلى القائمين على الدراما إدراك أبعاد المجتمع السوري، اليوم، الذي لا يشبه نفسه قبل الحرب، والبحث بهدف الاستفادة من هذه التجربة، ولاسيما أننا أمام جيلّ انتقائي أكثر وعياً، وأكثر عنفاً؛ لذا يجب العمل على إعادة ضبط المعايير والقبول بحقيقة أن تجربة المجتمع السوري جديرةٌ بالاحترام حتى لو كانت قاسيةً وعنيفة، والمباشرة بعرض الأشياء أحياناً ذات فائدة توعوية كبيرة، فالمسؤولية التي تقع على الفنان هي الوعي لما يقدمه بما يتناسب مع المجتمع، إذ لا يمكننا اليوم تكرار الصيغة الدرامية التي سبقت الحرب”.
استباحت وسائل التواصل الاجتماعي المجتمعات كلها عربياً وعالمياً، ووفرت لأي شخص تصفح أي موقعٍ أو فيديو مهما كان مستواه الثقافي، سبعون بالمائة من وقت عرض الحلقة التلفزيونية ينشغل الناس بهواتفهم باعتقاد “السلكا” الذي يضيف: “المسؤولية الاجتماعية ليست حكراً عليّ كصانع محتوى، فأنا أملك المسؤولية للحفاظ على الحد الأدنى من المستوى الفني للعمل، لكن الخطورة تكمن في سحر وسائل التواصل الاجتماعي الذي يعتمد عليه صنّاع الدراما في جذب الجمهور نحو العمل الفني، فلم نعد نحن المسؤولون عن وعي الجمهور، وفكرة أن الدراما قادرة على تغيير الوعي للأسف لم تعد مجدية طالما أن وسائل التواصل الاجتماعي هي المسيطرة على هذا الجيل”.
وكغيرها، تتفاوت الدراما السورية في تقديمها للواقع؛ إذ يعتمد بعضها على المبالغة في تصوير الأحداث والعواطف بهدف جذب الجمهور أو تعظيم الأثر الدرامي، الأمر الذي قد يشوه الواقع، فالمسؤولية الاجتماعية مهمة القائمين على هذه الصناعة لكونهم يلعبون دوراً كبيراً في تشكيل الوعي العام والتأثير عليه كي لا تؤدي إلى نتائج عكسيةٍ تعزز الصور النمطية السلبية، يقول مؤلّف “قاع المدينة”.
ويحمّل الناقد الفني المسؤولية للجميع؛ إذا يقول عامر: “طالما أننا نفتقد لسوق إنتاجي خاصّ متعثرين بالتسويق؛ سيلجأ صناع الفرجة السورية للبحث عن وسيلة أو زاوية يقدم منها حكايته على أساس أنها واقع سوري، لكن من يحاكم أو يسمح أو يعطي الضوء الأخضر لهؤلاء؟!”، متطرقاً للاستسهال في انتقاء الموضوع من قبل البعض لغايات قد تكون التعيّش أو الرغبة في الشهرة، “ناهيك عن فكرة أن أسماء عدّة تكتب الدراما لكنها لا تقرأ، ومنهم من لم يقرأ رواية واحدةً، فماذا ننتظر من أدمغة هؤلاء أن يقدموا للجمهور؟!”.
يترك عامر أسئلته مفتوحةً عسى أن يجيب أو يستجيب أحد!.