هل العاطفة داء أم دواء؟
غالية خوجة
تختلف وجدانات الشخصيات الإنسانية، فهناك الإنسان العاطفي، والجامد، والعاصفي، والخامد، وذلك تبعاً للحساسية العاطفية، وذاكرتها الأولى، فكلما كانت هذه الحساسية واعية، اتّزنت الشخصية، ووظّفت وعيها بتناغم مع عاطفتها، وهذا ما يسمّى بالمحبة الناتجة عن هارمونية القلب والعقل معاً.
ولهذه الهارمونية أسبابها الكثيرة، أهمها معرفة الحياة، والتعلّم منها، والتعامل المنطقي مع العقل الباطن الذي عليه ألّا يرفع أفق توقعاته من حيث التعامل مع المحيط الإنساني، لكي لا يصطدم، ويعاني مرحلة ما بعد الصدمة.
وهذا التوازن قد ينتج عن مرحلة الطفولة واستقرارها العاطفي العائلي، وإلاّ إذا كانت غير مستقرة فإنها تمنحه قلقاً إضافياً لن ينجو منه إلا من خلال معالجته لذاته عاطفياً من خلال الوعي المنشئ لمعادلة التوازن، فلا يصير جامداً، أو عاصفاً، بل يكون في فضاء مناسب من النقاء الوجداني، ويتعلّم كيف يطوّر هذه العاطفة لكي لا تظلّ داء مقيماً، ويحولها بإيجابية لتصير دواء له ولمحيطه، فيصبح ويظل عطوفاً على الآخرين غير منتظر منهم مقابلاً، وهذا يعني أن عاطفته أصبحت شفيفة، ورحيمة، ونابعة من قلب مبصر، وعقل حكيم.
ولأهمية هذه الحساسية الإنسانية، وتوظيفها لعواطفها إيجابياً، وتراحمها المشرق من الرحمة، نلاحظ أن القرآن الكريم يبدأ بالبسملة، والبسملة 19 حرفاً، جمعت اسمين من أسماء الله الحسنى “الرحمن” و”الرحيم”، لذلك، ارتبطت المحبة بكثير من القيم ومنها العاطفة والتعاطف بمختلف الأشكال والأساليب الراقية: “من أحبّه الله وضع الرحمة في قلبه”، وهنا تتجلّى العاطفة الإنسانية في مقامها الأعلى لأنها مكنون أصيل، يشعّ على جميع الناس، فيساعدهم، صغيرهم وكبيرهم، ضعيفهم قبل قويهم.
ولكي لا تنقلب العاطفة إلى ضدها فتكون داء، لا بدّ من أن يخرج الإنسان عن ظروفه الكئيبة، بمساعدة ذاته، وعلاجها بالعاطفة، أي أن يشذّب الأفكار المؤذية التي مرّت بحياته، ويمحو آثارها، ويستبعد التفكير السلبي، ليستعيد أعماقه البيضاء، وطاقته الإيجابية، ويلتفت إلى الحاضر والمستقبل بإشراقة تجعله منتجاً في الحياة، ممارساً لمواهبه التي يحبها، معطاء، غير منتقم من ظروفه والمحيطين به، بل بإمكانه أن يكون مثالاً ناجحاً لأغلبية الناس التي تعاني مثله عاطفياً، عائلياً، اجتماعياً، اقتصادياً، فيحب الحياة كما هي، لا كما يريدها هو تماماً، ويجرب أن يجعلها أفضل لا أسوأ، وهنا، يكون قد وظف سلوكه الإيجابي في فضاء العاطفة الموجبة الشافية وصارت دواء مشعاً بالصبر.
لكلّ إنسان ظروفه الشخصية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية، لكن، لو كلّ إنسان جعل من هذه الظروف داءً يتحكّم به، لتحول العالم إلى كآبة تأكل بعضها بعضاً، ولما قال الشاعر الفيلسوف أبو العلاء العري: “مشيناها خطىً كتبت علينا.. ومن كتبت عليه خطىً مشاها”، ولما عادت الشمس لتشرق كل يوم بعالم جديد، ولما قال سعد الله ونوس “محكومون بالأمل”، وهذا الأمل لا يأتي راكباً أو راجلاً أو على بساط الريح، بل لا بدّ لتحقيقه من العمل بعد إعمال العقل، والتفكّر، والتأمل، أي “اعقلْ وتوكّل”، وتأتي بعد ذلك مرحلة التوقع الإيجابي الواقعي للنتائج، سواء أحدثت أم لم تحدث، لا التوقع الوهمي، وهنا، تكون العاطفة دواء للجميع، ولا يدركها إلاّ من يرغب في اكتماله الإنساني، غارساً ذاك الأثر من الوجدان في أفئدة الناس، وبينهم، وفي ذاكرة المكان والزمان والفضاء.
ترى، كم من عاطفة انقلبت عليك داءً؟ والأهم هل استطعت أن تجعلها دواءً؟ كيف؟
لك أن تحدّث نفسك وعائلتك وأصدقاءك عن تجربتك بمحبة لأنك حوّلتَ المحنة إلى منحة، وأكملت إنسانيتك بنجاح.