حكاية نشأة المسرح العربي بين التكرار والاجتهاد
حمص- آصف إبراهيم
بات الحديث عن نشأة المسرح العربي على أي منبر ثقافي من دون التوصل إلى معطيات جديدة وتقديم إضافات موضوعية، نفخاً في قربة مثقوبة، واجتراراً لا فائدة ترجى منه، ولاسيما أننا في السرد التاريخي نحن أمام حالة من التلقين الجامد الذي يختلف عن الأداء المسرحي لنصّ ما، يمكن أن يتميّز فيه المخرج أو الكاتب المعدّ بالأسلوب، والرؤية، عن غيره من مخرجين ومعدّين قدموا النص ذاته، أما أن نجلس على كرسي خلف طاولة ونقدّم سرداً تاريخياً يدور حول موضوع محدود بحيثياته وتشعباته فهو استسهال واستخفاف في التعاطي مع المشهد الثقافي.
فمن هو المسرحي أو المهتمّ بالثقافة الذي لا يدخر بعض الإلمام، بقدر ما، برحلة نشأة المسرح في الوطن العربي التي بدأت، كما يتفق عليه معظم الباحثين والمؤرخين عام 1847، عن طريق الترجمة على يد مارون النقاش في بلاد الشام عندما بادر إلى تعريب بعض الأعمال المسرحية وقام بتمثيلها، مثل مسرحية “البخيل” لـ”موليير” ومسرحية “هارون الرشيد”، ثم خطا أبو خليل القباني في هذا الشأن خطوة مهمّة، عندما حاول تطويع الموروث الشعبي إلى المسرح مثل “ألف ليلة وليلة”، وجعل الفصحى لغة للحوار ثم هاجر من دمشق إلى مصر حين أغلق مسرحه عام 1884، كذلك إسكندر فرح الذي اشتغل مع أبي خليل، وكوّن بعد ذلك فرقته المسرحية الخاصة، وكان المعلم الأول لكثير من رواد المسرح في سورية ومصر.
كما قدّم يعقوب صنوع في مصر مسرحيات مترجمة أو مقتبسة أو مكتوبة باللهجة العامية لنقد الأوضاع السياسية والاجتماعية، وأنشأ “أبو نظارة” أول مسرح عربي في مصر عام 1870 عندما قدّم نحو 30 عرضاً مسرحياً تتراوح بين المشهد الواحد والتراجيديا، بعدها جاء سليم النقاش فترجم بعض الأعمال المسرحية مثل “أندروماك” و”ميتريدات” وعاد جورج أبيض إلى مصر عام 1910، قادماً من فرنسا بعد دراسة أصول المسرح ليقدم مسرحيات اجتماعية تمّ تعريبها بجانب مسرحيات شكسبير “عطيل” و”تاجر البندقية” وغيرها، ثم أسّس يوسف وهبي “فرقة رمسيس”، وأسس الريحاني والكسار وسلامة حجازي وغيرهم فرقاً مسرحية قدّمت أنماطاً مسرحية مختلفة، منها المسرحية الجادة التي تعتمد على النص الأدبي، والمسرحية الكوميدية الانتقادية ذات الأساس الشعبي، والأوبريت أو المسرحية الغنائية التي تتخذ من أحداث قصة مسرحية واهية البناء في الغالب مناسبة لغناء فردي وجماعي ورقص ومناظر أخرى مدهشة مثل المفاجآت البصرية.
ثم ازدهر المسرح العربي بظهور أسماء أخرى من الكتّاب أمثال ألفريد فرج ويوسف إدريس وسعد الدين وهبة وصلاح عبد الصبور ومحمد الماغوط وعلي الراعي ومعين بسيسو، ومن قبلهم توفيق الحكيم وأحمد شوقي وعزيز أباظة وأحمد علي باكثير، فقدّم الحكيم مسرحيات “أهل الكهف” و”شهر زاد” و”سليمان الحكيم” و”بجماليون” و”الملك أوديب” وترجم عدداً كبيراً من نصوص الحكيم المسرحية والروائية إلى كثير من اللغات الأجنبية، وكتب شوقي مسرحيات شعرية مثل “البخيلة” و”علي بك الكبير” و”مصرع كليوباترا” و”مجنون ليلى” و”عنترة” وغيرها.
هذه البدايات يعيدنا إليها المسرحي تمام العواني في محاضرة استضافها اتحاد الكتّاب العرب بحمص تحمل عنوان “نشأة المسرح العربي” ليخبرنا أن المسرح المصري حمل أعباء هذه النشأة ويتطرق إلى دوره في بناء المجتمع، ويعرج إلى بوادر المسرح في عصور الخلافة الإسلامية.
قدّم العواني حكاية حاول فيها استخدام الأسلوب المسرحي المشوق، وقدم وجهة نظر ومحاكمة لكل رائد من هؤلاء الرواد، مع إجراء مفاضلة بينهم، من دون أن يستسلم للأسلوب السردي التوثيقي الجاف، وتطرق إلى خيال الظل والأجواء التي هيأت لبلورة المسرح بصورته ومقوماته المتكاملة، متجاوزاً السرد التاريخي، ومقترباً من الدراسة والتحليل والمحاكمة، وهو المسرحي العتيق المحترف للمسرح والمشرب لحب الأداء المسرحي.
لم يضف العواني جديداً على الصعيد التوثيقي سوى أنه حاكم تجارب الرواد وأخضعها للتحليل والمحاكمة، وحاول فرد مساحة للمسرح الحمصي ورائده مراد السباعي، وفرحان بلبل فيما بعد الذي شكل فرقة مسرحية استمرت أربعين عاماً، والكاتب وليد فاضل الذي ظلمه الإعلام وأبقاه في الظل على الرغم من أهمية تجربته، كما أكّد استمرار المسرح مادام هناك من يعشق أبا الفنون.