المستقبل للشرق الأقصى
علي عبود
من السهل على أمريكا أن تستقوي بجبروتها على الدول الضعيفة فتدمّر اقتصادها وثقافتها وتطيح بكلّ مكوناتها المجتمعية، بل وتقضي على قطاعها المالي والمصرفي، لكن من المستحيل أن تعبث باقتصاديات دول قوية كروسيا والصين، كما تحاول فعله خلال السنوات الماضية.
وحسب دراسة أعدّتها منظمة الأمم المتحدة منذ سنوات فإن العقوبات الاقتصادية لم تنجح بإسقاط نظام أيّ دولة، والأمثلة كثيرة من أبرزها (كوبا، وإيران، وفنزويلا، وسورية.. إلخ). صحيح أن العقوبات تكون مؤثرة جداً في بداياتها على اقتصادات الدول النامية، لكنها سرعان ما تتحوّل إلى فرصة للاعتماد على الذات والتعاون فيما بينها لمواجهتها، بل والتحول إلى دول قوية في مناطقها، وتشتد مقاومتها للهيمنة الأمريكية! ويبدو أن أمريكا لم تتعلم من تجاربها، فتوهمت أنها بفرضها العقوبات على روسيا والصين ستحتفظ بمركزها كقطب وحيد يهيمن على العالم لعدة عقود قادمة، لكن النتائج كانت سريعة ومفاجئة وصادمة، فاتحدت الدول الرئيسية التي عاقبتها أمريكا وتحديداً روسيا والصين وأسّست لمجموعات اقتصادية ضخمة كمنظمة بريكس وشنغهاي وأوراسيا والمنتدى الاقتصادي الشرقي (الذي انعقد أخيراً في فلاديفوستوك).
لقد فجّر إصرار أمريكا على إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا من خلال الحرب الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية الطاقات الهائلة والكامنة التي تملكها من جهة، واستثمار مجالاتها الحيوية الحيوسياسية والجيو اقتصادية وكانت النتائج سريعة ومؤثرة إلى حدّ أنهى القطبية الأحادية والهيمنة الاقتصادية الغربية على العالم، وها هي الدول من القارات الخمس تسعى للانضمام إلى المجموعات والتكتلات الاقتصادية التي تتيح لها التحرّر من الدولار ومن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية!.
واكتشفت الكثير من الدول العربية والأفريقية والآسيوية والأمريكية (اللاتينية) أن التكتلات المدعومة من روسيا والصين تعمل وفق مبدأ (رابح- رابح) وعلى قدم المساواة، في حين أن التكتلات التي يسيطر عليها الأمريكان تتعامل مع الخصوم والأصدقاء على حدّ سواء وفق مبدأ (رابح- خاسر)! ولعلّ مبادرة الحزام والطريق الدليل على مبدأ (رابح- رابح)، فهي جلبت للدول المنضوية فيها استثمارات حيوية في مرافقها الخدمية والتي ستزيد من مبادلاتها التجارية مع عدد كبير من الدول وبعملاتها الوطنية وليس بالدولار، وها هي الصين تعلن منذ أيام أنها ستضخّ استثمارات في أفريقيا تتجاوز الـ50 مليار دولار (بالعملة الصينية).
ومن المهمّ التوقف عند التظاهرة الاقتصادية الدولية التي انعقدت مؤخراً في فلاديفوستوك، فالرسالة التي وجّهها الرئيس الروسي في كلمته الافتتاحية والتي تجسّدت بعشرات الاتفاقيات الموقعة بين المشاركين في هذا التظاهرة.. لأمريكا وأوروبا: المستقبل للشرق الأقصى! وما يؤكد ذلك إقبال عدد كبير من الدول المؤثرة للانضمام إلى مجموعة بريكس وآخرها تركيا العضو في الحلف الأطلسي وقبلها إيران ومصر، وخاصة السعودية التي تنسّق مع روسيا أيضاً في منظمة (أوبك بلس)، ويضاف إلى ذلك تفعيل الممرات البحرية والسكك الحديدية التي ستزيد التجارة بين بلدان الشرق الأقصى بمنأى عن الاتحاد الأوربي الذي سيكون الخاسر الأكبر من تأييده وتماهيه مع أمريكا في تفجير الحرب على حدود روسيا!.
ومن اللافت جداً حديث الرئيس بوتين عن ربط الشرق الأقصى بالشرق الأوسط اقتصادياً وثقافياً وتربوياً بشراكات ستكون بديلاً للسياسات الأمريكية والأوروبية التي كان ولا يزال شغلها الشاغل زعزعة استقراها وتخريب نسيجها الاجتماعي والاقتصادي، ومن هنا يتزايد اهتمام دول عربية كثيرة بتنويع خياراتها الآن، وربما لن يطول الوقت حتى تختار الشرق الأقصى لأنه طريق المستقبل للنمو والازدهار، والتحرّر من الهيمنة الأمريكية التي أغرقتها في الديون والقروض.. إلخ.
الخلاصة: يُمكن اختصار المشهد الحالي ولعدة عقود قادمة بالتالي: الصين ستتصدّى باعتبارها قوة اقتصادية كبيرة في المواجهة المالية مع أمريكا من جهة، وبالمساهة بتنمية الشرق الأوسط من خلال مبادرة الحزام والطريق من جهة أخرى، في حين ستتكفل روسيا ببناء مكانة سياسية وجيو اقتصادية متقدمة في مواجهة الولايات المتحدة، وكلّ ذلك في إطار استراتيجية قوية تترجم الهدف الأساسي: المستقبل للشرق الأقصى.