دراساتصحيفة البعث

النخب الأمريكية لا تقبل التغييرات في العالم

عناية ناصر

يتمّ الاعتراف في وسائل الإعلام الأمريكية وفي كتابات عدد من المحلّلين والخبراء السياسيين بتراجع دور الولايات المتحدة ونفوذها في العالم. ومع ذلك، لا تزال واشنطن تفكر وفق منظور القرن الماضي، معتقدةً أن العالم كله يتمحور حولها فقط، وأن الولايات المتحدة “الفقيرة” تعارضها قوى ترفض العيش وفقاً للطرق الأمريكية، مثل الصين وروسيا، و”الأشرار” مثل إيران وكوريا الديمقراطية الذين يدمرون وفق زعمها السياسة الأمريكية علناً.

يبدو أن النمو للاقتصاد الصيني، الذي تجاوز الاقتصاد الأمريكي ويستمر في التطور بثقة وسرعة، وتشجيع الدول الأخرى، وخاصة الاتحاد الروسي، فضلاً عن الأنشطة الأكثر نشاطاً لدول الجنوب العالمي لحماية مصالحها الخاصة، كان من المفترض أن يُفقِد المسؤولين الأمريكيين صوابهم. لقد انتهت فترة القطب الواحد في العالم منذ زمن بعيد، والآن يدرك حتى زعماء دول أوروبا الغربية أن العالم يعيش في نظام من العلاقات الدولية يتميّز بالتعددية القطبية.

ينظر رجال الدولة والشخصيات العامة في الولايات المتحدة إلى العالم بغطرسة وعنجهية، حيث يميلون إلى تفسير الأخطاء العديدة في الحسابات والإخفاقات في السياسة الخارجية الأمريكية باعتبارها مكائد خبيثة من قِبَل دول معادية. وفي هذا السياق زعم المقال الذي نشرته مجلة “فورين أفيرز” مؤخراً لمديرة معهد هوفر في جامعة ستانفورد، كونداليزا رايس، التي كانت في بداية القرن الحادي والعشرين مساعدة للرئيس لشؤون الأمن القومي ووزيرة خارجية الولايات المتحدة، أن المشكلات القائمة تزداد تعقيداً بسبب التعاون المتزايد بين روسيا والصين وإيران وكوريا الديمقراطية، حيث تشترك الدول الأربع في هدف واحد هو تقويض النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والذي تكرهه وتسعى لاستبداله.

يعترف المقال بأن “الولايات المتحدة تميل إلى الانغلاق على ذاتها”، ولهذا السبب أطلق عليه عنوان “مخاطر الانعزالية”، والفكرة الرئيسية هنا هي أن الولايات المتحدة لا بدّ وأن تواصل مسارها التدخلي مع إدخال تعديلات طفيفة فقط. وترى رايس أن “الولايات المتحدة التي استنفدتها ثمانية عقود من الزعامة الدولية بعضها ناجح، وبعضها الآخر مرفوض باعتباره فشلاً، قد أصبحت دولة مختلفة الآن، والشعب الأمريكي مختلف أيضاً، فقد أصبح أقلّ ثقة في مؤسساته وفي جدوى الحلم الأمريكي، ولقد تركت سنوات من الخطابات المثيرة للانقسام الأمريكيين في حالة من الهشاشة والانقسام بين أعضائه، وشعوراً ممزقاً بالقيم المشتركة”.

ووفقاً لـ رايس يجب على واشنطن أن تواصل حملتها للضغط في الشؤون الدولية، والسعي كما كانت  في السابق لعزل روسيا والتأكيد على أن “سلوك الصين غير مقبول، كما لا ينبغي لواشنطن أن ترفع تجميد الأصول الإيرانية مرة أخرى كما فعلت إدارة بايدن”.

وترى رايس أنه من أجل ضمان سياسة خارجية أممية، أو بعبارة أخرى ضمان إملاءات واشنطن وتدخلها، يجب على الرئيس أن يرسم صورة حيّة لما سيكون عليه هذا العالم بدون الولايات المتحدة النشطة، أي بدون القيادة الأمريكية.

في هذه الحالة، سيواجه العالم الفوضى والاضطراب، فالولايات المتحدة “وفق زعمها” وحدها القادرة على ضمان التنمية المستقبلية للبشرية، لأن عصب وأساس القوة العظمى لا يزال موجوداً إلى حدّ كبير في الجينات الأمريكية. وإدراكاً منها أن الأمريكيين استنفدوا قدراتهم بشكل خطير في العالم الخارجي، تتجاهل رايس ولا تذكر إمكانية التوصل إلى تسوية، وحلول تستند إلى مراعاة مصالح الأطراف الأخرى، فالأمر يتعلق فقط بفرض الولايات المتحدة لآرائها وقراراتها، ولا يمكنها ببساطة اقتراح خيارات أخرى.

من المؤسف أن هذه الرؤية السوداء والبيضاء للعالم ما زالت تشكل نموذجاً لأغلب خبراء السياسة الأمريكيين، فهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يتحرروا من دور شرطي العالم، ولم تعلّمهم أكبر الإخفاقات التي شهدتها السياسة الخارجية في السنوات الأخيرة شيئاً!.