لابدّ منهما.. الألفة والمحبّة!
يا إلهي..
كم أفتقد الألفة والمحبة والتوق إلى النيافة.
كم أشعر بالحزن وأنا أرى اليباس يزحف إلى عالم الخضرة، والليل وهو يمدّ ظلاله وعتمته ومخاوفه وهواجسه نحو النور والضياء والطمأنينة والرضا.
وكم تخيفني هذه الشرانق التي راحت تسوّر كلّ شيء، نعم كل شيء، من الرأي الواحد إلى الاكتفاء بالصوت الواحد، إلى الظن بأنّ الإبداع والجمال استقرا في ذات واحدة، إلى الظن بأنّ ما يكتبه الواحد، أو يصنعه الواحد، أي واحد، هو المطلق، لكنّ الحياة ليست هكذا، والإبداع ليس هكذا، والروح الإنسانية ليست كذلك أيضاً، الحياة اجتماع ومعيوشة، والإبداع حوار، واشتقاق، وأسئلة، والروح الإنسانية ضياء، ورضا، وعناق، وهي لم تخلق لتعرف الدحمة والتعارك، إنها مرآة للتآخي والتجاوز، تماماً مثلما هو تآخي الأعشاب والأشجار والنجوم وتجاورها!.
أقول هذا وأبوح به، وفي البال دروب المحبة، وصفحات القول المؤيدة لهذا الكاتب أو ذاك الشاعر، ولهذا الفنان، أو ذاك الناقد والمفكّر والدارس التي كانت تهجو الغرور والغطرسة والقول: أنا، أنا، أنا.. حتى ينقطع النفس؛ وفي البال أيضاً تلك المودّات متعددة الصور والهيئة والتشكيل التي كان يبديها أهل الآداب والفنون على الرغم من الأكلاف التي تتطلّبها تلك المودّات.
أذكر أنّ الأستاذ أنطون مقدسي، الفيلسوف والأديب، كان يستقبل صديقه جورج سالم بالمودة كلها، يفرّغ له وقته، ويجالسه ساعات حتى لتصير الأسئلة طيوراً محوّمة جائلة حول الثقافة، والأدب والفنون، والإبداع الأصيل أسئلة حول ما يجعل الأدب خالداً، وحول ما يجعل النص بارقاً ومضيئاً، وكائنا له روح ولسان وأطراف وصفات، ويفرح الاثنان باللقاء، وأحدهما ناقد، وثانيهما مبدع. الأول ترك الكتب ليقرأ كتباً جديدة في أقوال الثاني وأخباره، جورج سالم، وحين يودّع الأستاذ أنطون مقدسي، يسأله المضيف هل لك من حاجة أقضيها، فيقول جورج سالم: “أبداً.. جئت لأراك، اشتقت إلى سماع صوتك، ورؤية وجهك، ومجالستك المئناس”.
جورج سالم، كان يأتي إلى دمشق من حلب، قاطعاً مسافة مئات الكيلومترات، وطوال ساعات لا رفيق له سوى الكتاب يقرأ فيه إن كان سفره نهاراً، ليرى أنطون مقدسي رحمة الله.
وأذكر أيضاً أستاذنا الدكتور عبد السلام العجيلي، كان يأتي إلى دمشق لرؤية الأدباء والكتّاب والأصدقاء، مكابداً متاعب السفر وتحمّلها، وكان يصرّح بأنّه جاء لكي يصفو، ويشتري بعض الكتب التي تعينه على تخطّي الليالي الطويلة القادمات.
ومثل هذا كان يحدث لبدر شاكر السياب الذي كان يغادر البصرة وهي دار ثقافة، وحوار، وجمال، وأصدقاء، ويذهب إلى بغداد، وليس في باله من شواغل سوى رؤية البياتي، وبلند الحيدري، ولميعة عباس عمارة، والجواهري، وجبرا إبراهيم جبرا، ويذكر جبرا أنّ السياب تأخّر ذات مرة في بغداد أياماً طوالاً مترادفات، فسأله كيف يتأخّر عن عودته إلى البصرة، وهو أستاذ مدرسة، فقال له:”لم تمتلئ روحي بعد، أريد أن أراك أكثر، وأن أسمعك أكثر”.
وأبو القاسم الشابي الذي كان يعيش في بلدته توزر، حيث الصحراء التونسية، كان يترك كل شيء، ويسافر إلى تونس العاصمة ليرى أصدقاءه، شوقاً لموداتهم، وأحاديثهم، ولسماع ما يحلمون به.
وفي السنوات الماضيات القريبات، كنت أرى توافد الأدباء والشعراء والنقاد وأهل الرأي والثقافة على بيتين اثنين من بيوت المخيم، بيت الناقد يوسف اليوسف، وبيت د. فيصل درّاج، وما من أحد جاء بهؤلاء الخلق من أهل الإبداع والثقافة سوى المحبة والألفة، والتوق إلى ارتقاء أدراج المعرفة، كنت أرى أدباء وشعراء وفلاسفة وعشاقاً للتاريخ في بيتهما، وقد جاؤوا من المدن السورية، ومن البلاد العربية، ليبنوا في دواخلهم، في نفوسهم، قرى جديدة للمحبة الصادقة، والثقافة الأصيلة.
بلى، إنني أحزن الآن، وأنا أرى تلك الدروب التي كانت تقود أهل الثقافة والإبداع إلى بيوت هؤلاء الأدباء، وإلى الأمكنة التي عرفت بأنها جهات ثقافية، وقد انقطعت أو اندثرت أو امّحت معالمها، حتى مقاهي المدينة الواحدة غدت خالية من لقاءات أدباء وشعراء ومثقفي وفناني أحيائها وبلداتها، وكأنّ الحياة الثقافية غدت شرانق أو أحيازاً، أو نفوساً مغلقة على ذاتها، وهذا ما استتبعه قلة حضور أهل الثقافة والإبداع ومريديهما في أوقات الأنشطة الثقافية والفنية، حتى غدت المقاعد فارغة من شاغليها أو تكاد.
كل هذا موجع، لأنّ غياب الألفة، وتراجع مؤيدات المحبة، وكثرة الكدر والمنغصات هي مغيّبات شدود قادرة على أن تجعل الحال الثقافية تجهر بالشكوى من اليباس والعزلة، والتحييد؛ والحل والمخرج لمثل هذه الحال غير السوية، يتمثّلان بالسعي إلى الاقتناع بأنّ سنونوة واحدة غير قادرة على صنع ربيع حقيقي.
حسن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com