هذه هي الصين 2024
هيفاء علي
أنجزت الصين في خمسة وسبعين عاماً ما لم تتمكن أي دولة من تحقيقه في قرنين من الزمان. واليوم، تستمر هذه الرحلة في التقدم على كافة الصعد، إذ يدرك الصينيون جيداً ما أصبحت عليه بلادهم، وهم يعلمون أيضاً الحالة التي كانت عليها.
في عام 1949، قدمت الصين مشهد الفقر المدقع، حيث كان سكان الصين، الذين يتألفون في الأساس من مزارعين فقراء، يتمتعون بأدنى مستوى معيشة على هذا الكوكب، وهو أقل من نظيره في الهند البريطانية السابقة، ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. وبعد أن هجرها الجهل على الرغم من ثروة الحضارة التي يعود تاريخها إلى قرون من الزمن، بلغ معدل الأمية بين سكان الصين 85 %، وبعد أن سئموا من الفقر والعوز والذل، انتهى الأمر بالفلاحين إلى تدمير النظام الاجتماعي القديم من خلال الانحياز إلى ماو تسي تونغ والحزب الشيوعي، وهكذا حولت هذه الثورة الفلاحية ربع البشرية إلى جانب الاشتراكية.
وبعد خمسة وسبعين عاماً، يمثل الاقتصاد الصيني 20% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بتعادل القوة الشرائية، وقد تفوق على الاقتصاد الأميركي في عام 2014. وفي عام 2023، يمثل الناتج المحلي الإجمالي الصيني 142% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وتقوم الصين بتصنيع 50% من الصلب في العالم، وصناعتها ضعف صناعة الولايات المتحدة وأربعة أضعاف صناعة اليابان.
إنها القوة المصدرة الرائدة في العالم، وهي الشريك التجاري الرائد لـ 130 دولة، وقد ساهمت بنسبة 30% من النمو العالمي على مدى السنوات العشر الماضية. وبالطبع، أدى هذا التطور الاقتصادي المبهر إلى تحسين الظروف المعيشية المادية للصينيين بشكل كبير، وباتت الطبقات المتوسطة في الصين، التي يبلغ عدد سكانها 400 مليون نسمة، الأكبر في العالم.
فيما ارتفع متوسط العمر المتوقع من 36 إلى 64 عاماً في عهد ماو، من 1950 إلى 1975، ويصل اليوم إلى 78.2 عاماً مقارنة بـ 76.1 عاماً في الولايات المتحدة، و67 عاماً في الهند.
ويبلغ معدل وفيات الرضع 5.2% مقارنة بـ 30% في الهند و5.4% في الولايات المتحدة، كما تم القضاء على الأمية، وبات معدل الالتحاق 100% في المرحلة الابتدائية، و97% في المرحلة الثانوية.
وفي ختام المسح الدولي المقارن لأنظمة التعليم لعام 2018، منحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية المركز الأول لجمهورية الصين الشعبية. وبشهادة الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن حجم التقدم الذي أحرزته الصين مذهل. ووفقاً لخبراء اقتصاديين في البنك الدولي، فإن ظهور طبقة متوسطة ضخمة في الصين هو السبب الرئيسي وراء تقليص فجوة التفاوت العالمية بين عامي 1988 و2008 ففي غضون عشرين عاماً، تمكنت الصين من انتشال 700 مليون شخص من الفقر، حيث تم القضاء على “الفقر المدقع” وفقاً للمعايير الدولية في عام 2021 بعد عشر سنوات من الجهود، وقد حصل ما يقرب من 100 مليون شخص أخيراً على “الضمانات الخمس”: الغذاء، والملبس، والسكن، والتعليم، والصحة، ويمكن ملاحظة اختفاء الفقر في الإحصاءات المتعلقة بالدخل، من خلال احتسابه على أساس تعادل القوة الشرائية، حيث وصل متوسط الدخل السنوي المتاح للفرد في الصين إلى 19340 دولاراً، أو 83% من نظيره في الفرنسيين، وكل عام يزيد بحوالي 5% .
ومع تعميم الحماية الاجتماعية، أصبح 95% من الصينيين يتمتعون بالتأمين الصحي، في حين لا يتمتع نصف سكان العالم بأي تأمين صحي. وفي محاولة لتصحيح آثار الإصلاحات البنيوية في التسعينيات، أكد الحزب الشيوعي على الحد من عدم المساواة والبحث عن “الرخاء المشترك”. وقد تضاعف متوسط الراتب الحقيقي أربع مرات خلال عشرين عاماً، ولا سيما نتيجة لتعبئة العمال، وبدأت الشركات الأجنبية في نقل أنشطتها بحثاً عن عمالة أقل تكلفة. ومن خلال تطوير السوق المحلية، تعمل سياسة شي جين بينغ على رفع جميع الأجور.
كان المجتمع الصيني مجتمعاً فلاحياً حتى الثمانينيات، وأصبح مجتمعاً حضرياً في الغالب، ويقوم نظام التعليم بتدريب المهندسين والأطباء والفنيين المؤهلين تأهيلاً عالياً على نطاق واسع. إن إحدى المسائل الأساسية التي تواجه البلدان النامية هي مسألة الوصول إلى التكنولوجيات الحديثة، وقد استفادت الصين في عهد ماو تسي تونغ من المساعدات التي قدمها الاتحاد السوفييتي حتى انقطاعها في عام 1960 أثناء الانقسام الصيني السوفييتي. وللتغلب على هذه الصعوبة، نظم دنغ شياو بينغ في عام 1979 الانفتاح التدريجي للاقتصاد الصيني على رأس المال الخارجي. وفي مقابل الأرباح المحققة في الصين، تقوم الشركات الأجنبية بنقل التكنولوجيا إلى الشركات الصينية، وعلى مدى أربعين عاماً، استوعب الصينيون التقنيات الأكثر تطوراً، واليوم، تصل حصة الصين من الصناعات ذات التقنية العالية إلى 28% من إجمالي الصناعات العالمية، وقد تجاوزت الولايات المتحدة.
واليوم تحتل الصين المرتبة الأولى في العالم من حيث عدد الخريجين في العلوم والتكنولوجيا والهندسة، كما أنها تدرب أربعة أضعاف ما تدربه الولايات المتحدة، ويسير هذا التقدم التكنولوجي من العملاق الصيني جنباً إلى جنب مع تحول الطاقة، إذ تعد الصين، الموقعة على اتفاقية باريس للمناخ، المستثمر الرائد في العالم في مجال الطاقة المتجددة، ففي عام 2023، مثلت استثماراتها ثلثي الاستثمارات العالمية، ولديها 60% من الألواح الشمسية، و50% من توربينات الرياح على هذا الكوكب.
ولتقليص مساحة الصحراء، قامت الصين بأكبر عملية إعادة تشجير في تاريخ البشرية بغرس 35 مليون هكتار، وأخذت التلوث الكارثي للغلاف الجوي على محمل الجد، وتمكنت من كبح هذه الظاهرة. وفي إطار رغبته في بناء “حضارة بيئية”، لا يبخل شي جين بينغ في الوسائل، وبالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة في الطاقات المتجددة ومكافحة تلوث الهواء والماء والتربة، فإن البرنامج النووي الطموح سيجعل الصين رقم واحد في العالم، حيث تم تركيب أول مفاعل من الجيل الرابع في شاندونغ في تشرين الثاني 2023.
وهكذا، فإن التطور المذهل الذي حققته جمهورية الصين الشعبية هو نتيجة خمسة وسبعين عاماً من الجهود الجبارة، ومن خلال تبني مسار أصلي للتنمية، ابتكر الصينيون نظاماً تكافح الفئات المستخدمة في الغرب عموماً لوصفه.
والصين هي ديمقراطية شعبية تعتمد شرعيتها حصرياً على تحسين الظروف المعيشية للشعب الصيني. ويدرك الحزب الشيوعي منذ عام 1949 أن أدنى انحراف عن خط الرفاهية الجماعية من شأنه أن يؤدي إلى سقوطه، ولديها الاهتمام بالمصلحة المشتركة، وأولوية المدى الطويل، وثقافة النتائج، واختيار القادة على أساس الجدارة.
وبفضل الإصلاحات الاقتصادية والانفتاح على التجارة، اكتسبت الصين “نظام اقتصاد السوق الاشتراكي” الحقيقي، ومنذ وصول شي جين بينغ إلى السلطة، ركزت الحكومة بشكل أكبر على نوعية الحياة والرخاء المشترك، وحتى لو كانت الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي لا تزال أعلى بكثير من نظيراتها في البلدان الغنية، فإنها تشهد تباطؤاً يمثل بداية دورة جديدة.
ومع إصلاحات الثمانينيات والتسعينيات، ارتكزت سياسة التنمية على تحديث المؤسسات العامة، وإنشاء قطاع خاص قوي، ونقل التكنولوجيا من البلدان الأكثر تقدماً. واليوم، تهدف جمهورية الصين الشعبية إلى احتلال المركز الأول في التقنيات المبتكرة حيث انتهى الأمر بالصين إلى الفوز باستقلالها الإستراتيجي.