المكان في الأدب العربي وشمٌ لا يمكن التخلص منه
أمينة عباس
الأمكنة ذاكرة الشعوب، وهي عنصرٌ رئيس في الكتابة الإبداعية، وعليه تقوم الأحداث وتولد الشخصيات وتُبنى وتتشابك فتمارس سطوتها على الكاتب والقارئ، وخاصة عندما لا يتعامل الكاتب معها بشكل جمالي أو زخرفي، إنما كركن أساس في بناء روايته أو قصيدته.. من هنا أطلّ الشاعر توفيق أحمد والدكتور عبد الله الشاهر في الندوة التي عُقدت، مؤخراً، بالثقافي العربي في “أبو رمانة” تحت عنوان “دور المكان في الأدب العربي” على الأمكنة التي ارتاداها وظلت آثارها باقية في ذاكرتهما ومخيلتهما، فاستحضراها في كتاباتهما وإن ابتعدا عنها لتحيي من جديد فيهما ذاك الحنين إليها، تقول الشاعرة إيمان الموصللي التي أدارت الندوة: “للمكان عطر نستنشقه في الرواية والقصيدة والقصة، فهو مَنْ يخلقه الشاعر من فضاءاته المتخيّلة حتى لو كان حقيقةً وواقعاً، ويحمل بصمة الأديب الخاصة كونه يعني الرائحة والشهوة والمرض الأول والشفاء”.
ويرى د. الشاهر الذي أصدر، مؤخراً، كتاباً بعنوان “أنسنة المكان” أن “العلاقة وثيقة بين الكاتب والمكان، حيث لا يمكنه التخلي عنه، حتى إذا لم يظهر بشكله المادي والروحي فهو يظهر في اللاوعي، وما نتاج الأديب إلا انعكاس للمكان الذي شكّله وطوّر حياته وأنتج منه تلك الأفكار التي كان فيها المكان السند الذي ارتكز عليها.. من هنا فإن بيني وبين مدينتي الحالمة التي تتكئ على كتف الفرات الأيمن وتفرد جسدها على أطراف البادية الشامية عشق مزروع في كياني، منه تولد قصص وحكايات، وأعترف بأنه لم يخطر ببالي في يوم من الأيام أن أكتب عن المكان وأقف على مفرداته وذاكرته، لكن رسالة حرّكت ما هو ساكن في أعماقي وفجَّرت سيلاً جارفاً لديّ من الذكريات ضممتها في كتابي “أنسنة المكان” حيث كنت أتذكر الأمكنة ولا أذكرها، أتجول في ذكراها ولا أوثقها، أتصورها ولا أصورها”.
ويجول الشاهر في حديثه بين أمكنة كثيرة، مفضّلاًً التوقف طويلاً عند الأمكنة التي شهدت طفولته واحتضنت خطواته الأولى، يقول: “أشعر بأن انطباعات طفولتنا أكثر التصاقاً بأماكننا، ومكان الطفولة هو الإطار الطبيعي لكلّ ما يتجلى لنا مهما بلغنا من العمر، والمكان الأول فيها البيت، فأنا ما أزال أشمّ رائحة خبز أمي، والذكريات المحفورة في ذواتنا لا ينضب عطرها، فما أزال أذكر المدرسة التي لعبتُ في باحتها ولهوتُ في بهوها وتسمرتُ على مقاعدها، ويبدو أن الأماكن مهما كانت مؤقتة تترك أثراً فينا.. إن ذاكرة المكان وشمٌ لا يمكن التخلص منه، فالفرات ظلّ ظمئي الذي لم أرتوِ منه بعد، وظلّ صديقي الذي ألجأ إليه في الكثير من أزماتي، حتى وأنا غائب عنه أستدعيه فيحضر، وأعترف بأنني واحد من الذين يعيشون في ضجيج المكان ودوي انفجاراته، وأعترف بأنني من الذين تستوقفهم الأمكنة وتثيرهم الذاكرة، فالأماكن هي ما تعطي للحياة معناها وتدلّنا على مكنوناتها، وفيها روح الحياة، وبدونها تولد الأشياء ميتة، والعواطف تولد مشوهة، والأمكنة التي لا يغمرها الحب تتقهقر وتتصحر”، ويضيف: “قتلت الحرب ذاكرة المكان فينا وهدمتها، وهؤلاء الأغراب لم يفهموا أن البيوت والمدارس والمشافي والطرقات هي حكايات ومَشاهد فرح وحياة وأغانٍ وبهجة وحنان.. لقد غيّرت الحرب من طبيعة الأمكنة وجعلت منها مجرد ذكريات انمحت فنشفت عيون الفرات، فلا الحور حور، ولا أشجار الطرفاء تتكئ على شواطئه.. غابت حقول القمح من سهولنا، فبأي مكان يأتيني الحنين؟ ولأي ذكرى أتجه؟ وبأي من ذكرياتي؟”.
أما الشاعر توفيق أحمد فقد كان وفياً للأمكنة التي كوّنته أو حلّ بها، فتكاد لا تخلو قصيدة لديه من الإطلالات عليها، وكان لها دور مهمّ في بناء قصيدته، وقد ألقى بعضاً منها، فها هو يقول عن قريته التي حاكى بها كل القرى:
ضيعتي يا الورد فوق الجبين، يا قطيعاً من نجوم تعبت، واستحمت بمياه الجدول.
أما دمشق فهي المكان الذي وإن غادره أحمد يبقى معه في حلّه وترحاله، فتحت عنوان “قمر في الأردن” وهي القصيدة التي ألقاها في حفل افتتاح مهرجان جرش الدولي 2023 يقول: الشام قادمة إلى عمانا، لتعانق الأحباب والخلانا.
وفي قصيده ألقاها في مؤسسة الإبداع للثقافة والفنون والآداب في صنعاء بمناسبة كونها عاصمة الثقافة العربية لعام 2004 أنشد: لدمشق عطرك في المساء، ولون ذاكرة الوطن، تتقاسمان معاً شموخ الأبجدية، وتسافران معاً.
وعندما كان في الطائرة عائداً إلى دمشق عن طريق صنعاء جدة دمشق أنشد أبياتاً بعنوان “عودة المسافر”: دمشق ثانية، مَنْ يا ترى عبثتَ، يا قلب بي وجفاك الورد والماء؟ لمّي غبار دمي يا شام وانتظري، فليس تغني عن الحلوين صنعاء.
وفي بطاقة حب لبيروت وتحت عنوان “جهات الروح” يقول:
حملت إليك الشام خمراً معتقاً، وصليت في محراب عينيك خاشعاً، إذا أقفرت كل الجهات تنفست، رؤاك ربيعاً زاهي اللون يانعاً المكان”.
وفي بغداد ألقى قصيدة عام 2002 ضمن فعاليات مهرجان المربد الشعري: أتتك دمشق متوجة بالحرير العروبي، يلتف شالاً على خصرها، وأنا مثقل بالحنين، خذيني لعينيك بغداد، إن كان عندك شيء من السر بوحي، نخيلك يجري بقلبي.
وعندما دُعي توفيق أحمد إلى مديرية الثقافة بمدينة ميونيخ في ألمانيا كتب مجموعة من قصائد النثر ليلقيها هناك، وكان أغلبها يتحدث عن المكان: أتمنى أن تعرف كلّ نساء العالم، أن أجمل عطر، هو الذي ينطلق من الياسمين، الذي يملأ حواكير دمشق.. كما يقول: عندما تعشق امرأة رجلاً، تهديه تفاحة من أشجار غوطة دمشق، يغسل خصلات شعرها، بزجاجة من ماء نهر بردى.
وفي قصيدة أخرى ذكر فيها مدينة معرة النعمان التي سافرت ببال الشعر والأدب والفلسفة من خلال أبو العلاء المعري:
هذي المعرة هل كانت مسافرة، لولا المعرب ببال الشعر والأدب، أبو العلاء على أبوابها نغم، من ألف عام وحتى آخر الحقب.
ويبيّن الشاعر العراقي فائز الحداد في مداخلة له: “المكان أحد الأركان المهمّة في القصيدة، ففي تراثنا الشعري إشارات واضحة وعميقة تخصّ المكان الذي ينطلق منه المبدع ليفجّر طاقاته الإبداعية ويقول ما لم يقله أسلافه، والأمثلة على هذا الصعيد كثيرة نذكر منها ما جاء في شعر المتنبي وأبو تمام وديك الجن”.