الانتخابات الرئاسية انعكاس للهوية الشخصية
ريا خوري
باتت العلاقة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة في أدنى مسستوى لها، حيث وصفها العديد من الخبراء بـ “محنة الديمقراطية”، بعد وصول تلك العلاقة إلى أزمة مجتمعية. فالخلافات أصبحت أمراً واقعاً مع وصول التنافس الحزبي إلى مستوى ساخن غير معهود من التشرذم والانقسامات.
في أثناء حكم الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور في سنوات الخمسينات، من عام 1953 حتى 1961 كانت الأحزاب السياسية أكثر توافقاً مع بعضها البعض، بعكس ما هي عليه الحال اليوم، حتى مع وجود أجنحة ليبرالية وأجنحة محافظة في كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي .
حينها كان الرئيس الأسبق داويت أيزنهاور قد كثّف من تقاربه مع الحزب الآخر الديمقراطي، من منطلق عقيدته بأنّه رئيس لدولة تحتوي الحزبين الكبيرين، والمحمل بقضاياهما معاً، ثم إنّ الرئيس ايزنهاور وإن كان يمثل الحزب الجمهوري، إلا أنّه نال تأييداً واسع النطاق من عموم المواطنين الأمريكيين، بصرف النظر عن انتمائه لحزب بعينه.
لكن المشهد السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية على هذه الصورة قد لحقت به تغييرات كبيرة وجوهرية منذ ثمانينيات القرن الماضي من تكثيف التعبئة للانتماء أولاً إلى الحزب، إضافةً إلى صعود تيارات اليمين المحافظ، وتكثيفها لغريزة الكراهية والحقد والبغضاء السياسية للحزب الآخر، وظهور الدور الكبير والمؤثر للتلفزيون، والإذاعة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت إسهاماً كبيراً في تفاقم الانقسامات بين القوى والأحزاب، وهو ما وصفه عدد من الخبراء الاستراتيجيين والمحللين السياسيين ببدايات الانجراف إلى السياسات القبائلية والعشائرية الحزبية الضيقة، وليس الوطنية.
في هذا الفضاء المحموم والمتغيرة، جاء الرئيس السابق دونالد ترامب منتمياً إلى اتجاهات التغيير ومضاعفة العداوات والانقسامات في التنافس الحزبي، واستغلاله لما كان قد طرأ على تلك العلاقة بين الحزبين من متغيرات واسعة تباعد ولا تقرب بين الأحزاب.
لقد تم الحديث مطولاً حول الاختلاف الذي دام لسنوات طويلة حول حجم الحكومة، وما يُراد منها، إلا أنّ الأمريكان وجدوا في النهاية حلاً وسطاً لاختلافاتهم بعكس الحال اليوم.
نفس التشخيص للوضع الحزبي الذي يشهده العالم أكد عليه عدد كبير من المراقبين الذين قالوا إن ما نراه اليوم هو انقسامات حادّة تملكت مشاعرنا وأحاسيسنا تجاه بعضنا بعضاً، وانعدام تام للثقة بين الديمقراطيين والجمهوريين، وإنّ حدّة الانقسامات يمكن أن تقود إلى تصاعد العنف السياسي في المجتمع الأمريكي.
ووصل الحال ببعض علماء الاجتماع وكبار المفكرين إلى القول إن هذا الاستقطاب يمكن أن يضع الولايات المتحدة الأمريكية على حافة حرب أهلية، بصورة تقترب مما جرى في الفترة التي تلت هزيمة ترامب في انتخابات عام 2020، واللجوء إلى العنف ضد الدولة ذاتها، وقيام اليمينيين المتطرفين باقتحام الكابيتول.
لذا، فإنّ السياسات التحريضية التي استمرت طويلاً أصبحت انعكاساً للهوية الشخصية للقادة وليس للمجتمع، وإنّ هذه الانقسامات تجاوزت حدود الاختلافات الكبيرة حول السياسات، ووصلت إلى حد الشجار والشتائم حول هوية الدولة ذاتها، ومعتقداتها الثقافية، وعلاقاتها الدولية الخارجية. حتى أطلق شعار أنّ الولايات المتحدة الأمريكية في مفترق طرق، إذ أنّ كل رئيس أصبح يدير معركة قتالية تعبر عن انقسامات مدفوعة بالانتماء الحزبي الضيّق، تركت آثارها السلبية في مشاعر الشعب الأمريكي، ووسعت من انعدام الثقة بين الديمقراطيين والجمهوريين حول خلافات لا يمكن إيجاد حل وسط لها.
وقبل حدوث هذه التحولات الجذرية الكبيرة في الأداء السياسي في أمريكا لمن يتصدّون لقيادة الأحزاب الكبيرة، فقد كانت هناك قاعدة أخلاقية يستند إليها موقف كل من المرشحين المتنافسين في انتخابات الرئاسة، مضمونها أن المرشح للرئاسة الذي نال التأييد الأكثر من المواطنين الأمريكيين، إنما هو اختيار من الشعب الأمريكي نفسه بغض النظر عن أي اتجاه سياسي يمثله إن كان جمهوري أو ديمقراطي، وهو ما كان، في زمن مضى، يؤدى إلى وقوف الحزبين معاً، لمساندة إرادة الشعب الذي اختار من يمثله، أما الآن فقد أصبح معنى الوفاق معنىً سيئاً للغاية.