دراساتصحيفة البعث

التضخم في سورية.. هل هو ظاهرة نقدية بحتة؟

توصيف المشكلة والحلول المقترحة

أثرت الحرب التي بدأت في عام 2011 على جميع المؤشرات الاقتصادية في سورية، ومنها مؤشر أسعار المستهلك الذي ارتفع بشكل كبير إذ بلغ (5141) في كانون الأول 2021 مقارنة ب (105.9) في كانون الثاني 2011. ترافق هذا الارتفاع مع ارتفاع كبير في سعر صرف العملة الوطنية (من حوالي 45 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد في عام 2010 إلى ما يزيد عن 13000 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد عام 2024)، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (انخفض من ((1494595 مليون ليرة سورية في عام 2010 إلى (691547) مليون ليرة سورية في عام 2021)، حسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء ومصرف سورية المركزي.

وعليه، من المهم البحث في أسباب مشكلة ارتفاع المستوى العام للأسعار وتوصيفها بشكل صحيح بهدف تقديم توصيات مناسبة فيما يتعلق بالتصميم الأمثل لاستجابة السياسة الاقتصادية لمعالجة هذه المشكلة.

مع بدء الحرب وانخفاض الإنتاج والصادرات وزيادة عجز الموازنة، كان لا بد من اللجوء إلى الإصدار النقدي لتمويل العجز، خاصة مع عدم وجود سوق مالية متطورة وصعوبة اللجوء لتمويل العجز عن طريق إصدار الأوراق المالية الحكومية (توقفت مزادات الأوراق المالية الحكومية منذ 2011 وحتى2020). واستناداً لبيانات مصرف سورية المركزي خلال الفترة (2000-2020)، شهد كل من القاعدة النقدية (M0) والعرض النقدي بالمفهوم الضيق (M1) والعرض النقدي بالمفهوم الواسع (M2) ارتفاعاً مستمراً خلال فترة الحرب على سورية منذ 2011.

فهل يعتبر التضخم في سورية خلال فترة الحرب ظاهرة نقدية بحتة ناتجة عن زيادة العرض النقدي؟

للإجابة على هذا السؤال، من المهم بداية أن نشير إلى أن منحنى القاعدة النقدية (M0) كان أدنى من منحنى العرض النقدي (M1) منذ عام 2000 حتى عام 2012 وبعد ذلك أصبح منحنى القاعدة النقدية أعلى، مما يعني أن الزيادة في القاعدة النقدية لم تحدث زيادة متناسبة في العرض النقدي (M1) خلال فترة الحرب. ومن الأمور التي يمكن أن تفسر هذا الأمر، زيادة احتياطيات البنوك الإضافية خلال فترة الحرب، والتي أثرت سلباً على المضاعف النقدي.

يلاحظ أيضا ً- استناداً لبيانات مصرف سورية المركزي- أن كل من نسبة القاعدة النقدية والعرض النقدي (M1) إلى الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية (gdp) اتخذت اتجاهاً صعودياً في معظم الفترات بعد عام 2012. بالمقابل، فإن العرض النقدي بالمفهوم الواسع نسبة إلى الناتج (M2/gdp) ارتفع بشكل كبير في عام 2012 ليعود ويشهد انخفاضاً من الربع الأول لعام 2013 حتى الربع الأول من 2017 ثم يعاود الارتفاع.

وبمقارنة تطور معدل التضخم ومعدل النمو النقدي M2 بفترة تباطؤ 1 (إذ يظهر تأثير تغير العرض النقدي في التضخم بتأخر سنة أو سنتين وفق النماذج الاقتصادية) نلاحظ أنهما متعاكسين في معظم الفترات بعد عام 2011.

يمكن تفسير هذا الأمر انطلاقاً من حقيقة أن زيادة العرض النقدي تؤدي لزيادة المستوى العام للأسعار على الأجل الطويل إذا أدت إلى زيادة في مستوى الإنفاق، علماً أن الزيادة في الإنفاق لا تؤدي بشكل مؤكد إلى زيادة متناسبة في مستوى الأسعار، إذا أدت إلى تحفيز الناتج. وباعتبار أن الإنفاق الاستهلاكي الكلي (C+G) بالأسعار الثابتة قد شهد خلال فترة الحرب انخفاضاً كبيراً ترافق مع تراجع الناتج الحقيقي الإجمالي (استناداً لبيانات مصرف سورية المركزي والكتب المركزي للإحصاء)، فإنه لا يمكن تفسير التضخم في سورية خلال الحرب بأنه ناتج عن زيادة الطلب والإنفاق حتى مع زيادة العرض النقدي.

أمر آخر لا بد من تسليط الضوء عليه، وهوسرعة دوران النقود، فنمو الناتج المحلي الإجمالي الإسمي لا يعتمد على معدل النمو النقدي فحسب، وإنما أيضاً على نمو سرعة دوران النقود. يقصد بسرعة دوران النقود عدد المرات التي تنفق بها الوحدة النقدية الواحدة لتسوية المدفوعات النقدية خلال فترة زمنية قدرها سنة. وعليه، فإن الزيادة في سرعة دوران النقود يعادل في تأثيره زيادة كمية النقود المصدرة، وانخفاض سرعة دوران النقود يعادل في تأثيره نقص كمية النقود المصدرة.

بالنسبة لسرعة دوران النقود في سورية (ناتج قسمة الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية إلى العرض النقدي M2)، يلاحظ أنها شهدت تقلبات كبيرة منذ بداية الحرب (بيانات مصرف سورية المركزي عن الفترة 2000-2020)، مما يعكس عدم الاستقرار في الهيكل الاقتصادي. حصل في الواقع انخفاض في سرعة دوران النقود مع بدء ظهور آثار الحرب بعد 2011، والذي يمكن تفسيره بأنه ناتج عن انخفاض مشتريات الناس، بسبب الحذر وحالة عدم اليقين والهجرة. لكن عادت سرعة دوران النقود للارتفاع بعد عام 2013 مع المخاوف المرتبطة بانخفاض قيمة العملة، وازدياد التضخم لتعاود الانخفاض من جديد خلال الفترة 2017-2020.

ومن خلال مقارنة تطور معدل النمو النقدي (M2) مع معدل نمو سرعة دوران النقود (V) نلاحظ أنهما متعاكسين منذ بداية الحرب عام 2011 حتى الربع الأول من عام 2017، وهو ما يمكن أن يفسر الاتجاه العكسي لتطور التضخم ومعدل النمو النقدي في سورية. إذ إنه مع زيادة سرعة دوران النقود، يمكن أن يترافق انخفاض العرض النقدي بارتفاع التضخم، والعكس صحيح.

مما سبق يمكن القول إن التضخم في سورية ليس ظاهرة نقدية بحتة ناتجة عن زيادة العرض النقدي فقط.

كيف يمكن إذاً تفسير ظاهرة التضخم في سورية؟

يحدد نموذج مثلث  Gordon ثلاث عوامل أساسية ممكنة للتضخم: صدمة طلب إيجابية (زيادة الطلب)، صدمة العرض السلبية (انخفاض الناتج)، والتضخم بالقصور الذاتي. بحسب هذا النموذج، من الممكن أن يرتبط التضخم طرداً مع الناتج عندما تكون صدمة الطلب الإيجابية هي المهيمنة. أما إذا كانت العلاقة عكسية بين التضخم والناتج (ارتفاع التضخم وانخفاض الناتج) فتكون صدمة العرض السلبية هي المسيطرة، وهذا هو الوضع فعلياً بالنسبة للاقتصاد السوري.

في الواقع، تعتبر صدمة العرض السلبية أحد العوامل الرئيسية المسببة للتضخم خلال فترة الحرب حيث انخفض الإنتاج، وارتفعت أسعار المواد الأولية وحوامل الطاقة والكهرباء وتكاليف النقل، مما انعكس على ارتفاع تكاليف الإنتاج وبالتالي ارتفاع الأسعار. كما ساهم ارتفاع سعر الصرف أيضاً في ارتفاع التكاليف والأسعار خاصة عبر قناة الواردات.

تأثر التضخم في سورية أيضاً بقوى القصور الذاتي (كما أشرنا في مقال سابق تم نشره في جريدة البعث) حيث أن التوقعات التضخمية تميل إلى أن تكون ذاتية التحقق، لأن سلوك الأفراد يتوافق مع توقعاتهم بشأن التضخم. من المفيد هنا أن نستند إلى تحليل  Friedman-Phelps في تفسير العلاقة العكسية بين التضخم والناتج. النقطة الأساسية بحسب هذا التحليل هي في أنه عندما تحصل تعديلات سريعة لتوقعات التضخم بحيث تستجيب توقعات الأجور والأسعار بسرعة لمعدلات التضخم المرتفعة السابقة وللمعلومات الاقتصادية الجديدة، بما في ذلك المعلومات حول التغييرات في السياسات الحكومية، في هذه الحالة لا تستطيع الحكومة إبقاء التضخم الفعلي أعلى من التضخم المتوقع باستثناء ربما لفترة قصيرة جداً. وبالتالي ستتم المطالبة بزيادة الأجور وترتفع تكاليف الإنتاج بما يعوض الارتفاع المستقبلي المتوقع في الأسعار وليس فقط الارتفاع الفعلي أو السابق. ينتج عن ذلك تراجع الناتج وتباطؤ في نمو الناتج مع استمرار التضخم.

ما هي الحلول المقترحة؟

استناداً لتوصيف مشكلة التضخم، فإن ظاهرة ارتفاع الأسعار خلال فترة الحرب لم تكن ظاهرة نقدية بحتة، وإنما ناتجة بشكل أساسي عن تراجع عوامل الاقتصاد الحقيقي (صدمة عرض) وعدم الاستقرار الأمني، توقعات التضخم (القصور الذاتي)، وانخفاض سعر صرف الليرة السورية. وبالتالي لا يمكن للأدوات النقدية المتاحة للمصرف المركزي أن تساهم لوحده أو بشكل فاعل في الحد من ارتفاعات الأسعار المتتالية. وقد أشار مصرف سورية المركزي لهذا الأمر مؤكداً أن فعالية استهداف السياسة النقدية لمستوى تضخم منخفض ومستقر في ظل الأزمة تنخفض نظراً لوجود العديد من المؤثرات التي تسهم، إلى جانب المؤثرات النقدية، في ارتفاع معدل التضخم وتتمثل بعوامل تتعلق بالجانب الحقيقي للاقتصاد والأسعار الإدارية والسياسة المالية، وهو ما اضطره إلى التخلي عن سياسة استهداف مستوى منخفض من التضخم واعتماد سياسة استهداف سعر الصرف (موقع مصرف سورية المركزي).

في الواقع، تسيطر صدمات التبادل التجاري والعرض على الاقتصاد السوري، خاصة بسبب أهمية الزراعة وعدم الاستقرار وتغيرات الإنتاجية. في مواجهة هذه الصدمات، لا تعمل سياسة استهداف التضخم بشكل جيد ويمكن أن تؤدي إلى تفاقم تقلبات الإنتاج. إذ إن استهداف التضخم من قبل البنك المركزي من شأنه أن يؤدي إلى تشديد السياسة النقدية مع ارتفاع تكاليف المدخلات مما من شأنه أن يقلل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الاقتصاد. وبالتالي فإن هذه السياسة النقدية قد تؤدي إلى نتائج أسوأ بالنسبة للاقتصاد الحقيقي مقارنة بالصدمة وحدها. كما إن استهداف سعر الصرف لا يكفي لمعالجة مشكلة التضخم الناتجة بشكل أساسي عن صدمة عرض سلبية، إذ يتطلب الأمر معالجة هذا السبب بشكل أساسي، وما يؤكد على هذا الأمر ما لوحظ مؤخراً من استمرار ارتفاع الأسعار حتى في فترات استقرار أسعار الصرف. بالمحصلة، فإن سعر الصرف لا يجب أن يكون هدفاً وإنما وسيلة.

برأينا، وكما أشرنا- في مقال سابق منشور في جريدة البعث- يمكن أن يكون استهداف الناتج المحلي الإجمالي الاسمي خياراً مناسباً للسياسة النقدية في مواجهة صدمة العرض كونه يقسم التأثيرات بين التضخم ونمو الناتج المحلي الإجمالي بدلاً من التعرض لصدمات العرض السلبية في شكل خسارة الناتج المحلي الإجمالي وحده.

من المهم أيضاً أن يكون الهدف الرئيس للسلطات العامة في المرحلة الراهنة تنشيط الحركة الاقتصادية ودعم دورة الإنتاج، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بالكثير من السياسات والقرارات، ومنها قرارات تمويل المستوردات ومنصة الاستيراد. إذ وجهت مؤخراً كثير من الانتقادات للقرار 1970 لعام 2021 المتعلق بتمويل المستوردات عن طريق المنصة وما تلاه من قرارات (قرار 970 لعام 2023 وقرار 1130 لعام 2023) وتأثيرها السلبي في تراجع المواد الأولية، والبضائع المعروضة في السوق، والتسبب في ارتفاع أسعارها، بسبب التقييدات التي فرضتها على المستوردين، واضطرارهم للانتظار لفترات طويلة مما يسبب زيادة في التكاليف.

وفي نفس السياق، من المهم التنويه إلى أن سرعة دوران النقود تعتبر من العوامل المؤثرة في حركة النشاط الاقتصادي. وعليه، فإنه من المهم أن تعمل السياسات الاقتصادية الكلية على تحسين سرعة دوران النقود لتحقيق هدف دعم النمو والتوظيف الأمثل، وذلك من خلال التأثير في محدداتها كتوقعات التضخم، تفضيل السيولة، نظام المدفوعات في المجتمع وتفعيل وتطوير الدفع الالكتروني. ومن المهم أيضاً أن تقوم السلطات النقدية بخلق المزيد من الائتمان وتوجيهها إلى المشاريع الاستثمارية، وخصوصاً المتوسطة والصغيرة باعتبار دورة الإنتاج في هذه المشاريع لا تتطلب وقتاً طويلاً، وهو ما يساعد على زيادة سرعة دوران النقود، وتنشيط حركة التجارة الداخلية.

ولذلك فإنه ليس من المستغرب أن يشدد السيد الرئيس بشار الأسد على دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة كعصب للاقتصاد ووجب أولوية دعمها.

دكتورة ليندا علي إسماعيل

أستاذ مساعد (اختصاص اقتصاد مالي ونقدي)

قسم العلوم المالية والمصرفية – كلية الاقتصاد- جامعة تشرين