المسرح السوري بين الألم والأمل.. هكذا يرويه مأمون الخطيب!
حسن فخور
“إنّ المسرح في الواقع هو أكثر من فن، إنه ظاهرةٌ حضاريةٌ مركّبة، سيزداد العالم وحشةً وقبحاً وفقراً لو أضاعها، وافتقر إليها”، محكوماً بالأمل افتتح الراحل سعد الله ونوس اليوم العالمي للمسرح بهذه الكلمات كأول مسرحي عربي بدعوة من اليونسكو، فكيف يروي المخرج مأمون الخطيب معاناة المسرح السوري اليوم؟.
يبدأ الخطيب حديثه عن أهمية المسرح قائلاً: “كان للمسرح الأثر الأكبر في إثارة القضايا منذ نشأته، والمسرح الناقد خاصةً بشقيه السياسي والاجتماعي، إذ لعب دوره في البلاد كظاهرةٍ نقديةٍ تحاكي القضايا المهمّة ابتداءً بخيال الظل متمثلاً بكركوز وعيواظ، مروراً بأسماء اهتمّت بالشأن العام أمثال نهاد قلعي، ومحمد الماغوط، وسعد الله ونوس، عدا عن الفرق المسرحية التي انتهجت منهج التوعية السياسية والنقدية في المجتمع، بالإضافة إلى ريبرتوار المسرح العالمي -مسرح تُقدِم فيه فرقةٌ دائمةٌ مسرحياتٍ عدة في موسم واحد؛ بدلاً من مسرحيةٍ واحدة، يُعاد تقديمها طوال الموسم- ساهم بالنهضة الفنية ونشر الوعي لدى الجمهور السوري الذي تعرف على أمهات الأدب المسرحي العالمي من خلال فئة المخرجين الواعين للهدف التثقيفي والتنويري للمسرح، متسقاً مع سياسة المسرح القومي الذي ساهم بنشر تلك الأعمال بلغةٍ عالية المستوى لنصوصٍ ذات قيمةٍ أدبيةٍ”.
مرّ المسرح السوري بتحولات عدة في رواية الخطيب؛ إذ “تغيّرت ملامح المسرح السوري؛ نتيجة الحرب، حيث تحوّل الهدف إلى إنتاج أعمالٍ تحاكي واقع البلاد -في المرحلة الأولى من الحرب خاصةًـ بدلاً من المواضيع الإنسانية والأدبية العالمية، ساءت الأمور أكثر بعد الانهيار الاقتصادي الذي ساهم بتردّي الأحوال الإنتاجية؛ نتيجة الغلاء الفاحش الذي أصاب متطلبات الإنتاج المسرحي والخدمات اللوجستية للمسارح بسبب الوضع العام للبلاد من ناحية تأمين أبسط المتطلبات اليومية للبروفات العادية، بالإضافة إلى صعوبة تأمين العناصر الفنية والمقومات المطلوبة للعرض المسرحي، ناهيك عن خسارة العنصر البشري المثقف مسرحياً، حيث بهتت الكثير من العروض بسبب ابتعاد أغلب النخب المسرحية والثقافية عن الخشبة، وهروبها إلى مهنٍ أخرى تحقق لهم الشرط المادي الذي غاب تماماً -بل اندثر- في المسرح؛ ما أثّر على طبيعة العمل في المؤسسات الرسمية المعنية بالإنتاج المسرحي، وأفقر المسرح السوري الذي يتعرّض لأزمةٍ وجوديةٍ بسبب هجرة الكتّاب نحو فنون الدراما التلفزيونية بسبب الأوضاع المادية”، وباعتقاد المخرج المسرحي المخضرم أنّ “أزمة الكاتب السوري في المسرح قديمة، فالمعهد العالي للفنون المسرحية قلما قدم لنا كتّاباً ونقاداً مسرحيين من قسم الدراسات، وقلما نجد لديهم الشغف الأدبي لكتابة عملٍ يقضّ مضجعهم كمبدعين كما كان يفعل كلٌ من محمد الماغوط، وسعد الله ونوس، ووليد إخلاصي كأمثلةٍ على مبدعين تركوا إرثاً إبداعياً خلفهم، بالإضافة إلى عدم الاهتمام الرسمي بهذا الفن”.
ويفترض أستاذ المعهد العالي أن “تكون الحاجة إلى المسرح كالحاجة إلى الخبز لدى شعوب العالم المتحضر، إذ لطالما كان هناك حلقة مفقودة في النظرة إلى المسرح من حيث قيمته الثقافية الحقيقية أو باعتباره تراثاً اجتماعياً، ولو تراجعت الفنون أمام التكنولوجيا المعاصرة في دول الغرب، لكنها لم تنقطع تماماً، فما تزال النظرة إلى كلّ الفنون تمتلك ذات الأهمية أو القيمة الحضارية، وتزداد شعبية المسرح نتيجة الوعي بأهميته وإفراد المساحة والوقت والجهد والمردود الكافي لخلق عروضٍ ضمن تجارب تتطلب الوقت”، متأسفاً على واقع المسرح السوري لكونه “لا يُعدّ ضرورةً حتميةً في بلدنا لا من حيث المبنى ولا من المعنى، تجاربنا عبارة عن جهدٍ فرديّ لا يُبنى عليه تسلسل تطوري لكي يدخل في سلسلة التراث الثقافي للمنطقة، ولا يوجد توثيقٌ كافٍ لهذه التجارب التي قد تكون مهمّة ويمكن البناء عليها في هذا المجال، ومع هذا لا يخلو الأمر من عشاق فن المسرح ومريديه الذين يحاولون العمل ضمن معطياتٍ قاسيةٍ جداً بهدف ضمان استمرارية هذا الفن؛ إذ لم تتراجع شعبية المسرح السوري إلى الحدّ الذي يُقال فيه إنه لا وجود للمسرح أو للجمهور إلا أنّ ذهنية المشاهد لاحقاً تغيّرت مع تغيّر الزمن، وعادتْ تتابع المسرح بشكلٍ ملحوظ، وخاصةً إذا كان العمل يلامس الهمّ الاجتماعي والإنساني لديه”.
ويحمّل الخطيب المؤسسات المعنية “مسؤولية تراجع المسرح بالمعنى المهني؛ لكونها تخلّت عن دور المسرح كمشروعٍ تنويري ثقافي مهمّ، وساهمت في إبعاد الفنانين المهمّين عن هذا الفن وإجبارهم على التوجه إلى فنون أخرى أقل قيمة بالنسبة إليهم من الهدف الأسمى لوجودهم الإبداعي والفني العام، فالثقافة عموماً تتراجع على حساب المنتج الاستهلاكي الفني المتعلق بالوجبات الفنية السريعة في وسائل التواصل الاجتماعي، وانحدار مستوى التسويق الإبداعي للفنون والثقافة التي تتحوّل إلى فيديو قصير يستعرض معلومةً منقوصةً وسريعةً، غالباً ما تكون بعيدةً عن الفن الأصيل والثقافة الحقيقية”؛ لذا يمتلك مخرج “بئر القديسين” نظرةً سوداويةً تجاه واقع المسرح.
وعلى الرغم من كلّ المعاناة، لا يستطيع المخرج مأمون الخطيب إلا أن “يتمسّك بدفة خشبته؛ لإيمانه بأهميته، والهاجس الفني الذي يتملكه أثناء خلق العمل الإبداعي من خلال تشكله أمام العين بوساطة تركيب العناصر الإبداعية ضمن أسلوب العمل الجماعي النبيل والخلاق الذي يفتح الأبواب أمام المشاركة الجماعية بين المخرج وجميع أفراد الفريق المسرحي للوصول بالعمل إلى برّ الأمان بأهدافٍ سامية”؛ إذ يؤكّد مخرج “زنوبيا” أنه من “أنصار الشللية الحميدة”، مبرراً ذلك بأنّ “أرواح وعقول المبدعين قد تتلاقى لخلق منتجٍ فنيّ جيد، وهذا لا علاقة له بالمصالح الرخيصة أو الآنية في أوساطٍ أخرى، إذا لا يمتلك رواد المسرح رفاهية الشللية؛ كون الوسط المسرحي والثقافي لا يمتلك مقومات الشهرة والجذب المادي الذي يتمتّع بها الوسط الفني الدرامي التلفزيوني”.
“لا مشكلة في جمهور المسرح السوري؛ إذا ما وجدت العروض الجيدة”، الأمر الذي يتلمّسه معلم مسرح الهواة حقيقةً في العروض الجيدة المقدمة في سورية، مؤكداً أن “المشكلة تكمن في الكتّاب، بالإضافة إلى المشكلات الإدارية والمادية واللوجستية والقانونية والتقنية، فلا مانع من نشر التجارب المسرحية التي صُوِرت للتلفزيون في الكثير من المسرحيات السورية التي أُنتِجت قبل الحرب وخلالها، لكنّ الذهنية المتحكمة هي ما يمنع ذلك”؛ إذ يؤكّد المسرحي العتيق أنّ “التلفزيون يمتلك أرشيفاً كبيراً من الأعمال المسرحية السورية يحتاج فقط إلى الاهتمام بعرضها من قبل القائمين على الشأن الثقافي في التلفزيون السوري”.
كما أرسطو؛ يراهن المخرج المسرحي مأمون الخطيب على أنّ المسرح سيبقى إلى الأبد؛ لارتباطه برغبة الإنسان الأساسية في التعبير عن مشاعره وتشخيصها، محكومون بالأمل إيماناً برؤية أكثر أعلام المسرح السوري أهمية بأنّ ما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ!.