نقد نظرية هنتنغتون وصراع الحضارات
د. خلف المفتاح
تبدو فكرة صراع الحضارات فكرة مكررة بأشكال وعناوين مختلفة وربما تبدو راهناً فيما يجري في الانتخابات الأوروبية والأميركية، وصعود ما يسمى اليمين المتطرف. والفكرة هي أن الصراع القائم ليس بين دول، وإنما بين حضارات أو ثقافات، والقضية كما أشرنا ليست بالجديدة، فبدايتها مقالة كتبت ثم محاضرة ألقيت فتحولت إلى أطروحة وكتاب للمفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، وهي من أرقى وأهم الجامعات الأميركية والعالمية، تحت عنوان “صراع الحضارات” صدر قبل حوالي ثلاثين عاماً، وكان كتابه رداً على أحد تلامذته، وهو الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما، في كتابه “نهاية التاريخ”، ومحتوى كتابه أن الصراع الأيديولوجي في القرن العشرين بين الليبرالية السياسية، وما تمثله من انفتاح اقتصادي وحريات، وما بين الشمولية السياسية والاشتراكية والشيوعية، انتهى بانتصار حاسم – من وجهة نظر فوكوياما – لليبرالية السياسية والرأسمالية. والنقطة المركزية أن الصراع الإيديولوجي انتهى وليس الصراع بحد ذاته.
هذه الخلاصة أو الرؤية أثارت هنتنغتون، أستاذ فوكوياما، وقال: صحيح أن الصراع الأيديولوجي قد انتهى، خاصةً ما بين الفكرة الليبرالية والشيوعية أو الاشتراكية، ولكن هذا سيعيدنا كبشرية إلى الصراع الأكثر انتشاراً في كل التاريخ الإنساني الذي هو من وجهة نظر هنتنغتون صراع حضارات، ويقصد بالحضارات وفق تفسيره التكتلات الإنسانية التي يشكل العامل الرئيسي فيها لا الجغرافيا ولا التاريخ ولا الايدولوجيا، وإنما الوعي المتشكل عند جماعات ليس بالضرورة أن تعيش في جغرافيا واحدة، فيمكن أن تكون الجغرافيا تحمل مواطنين ومهاجرين من أماكن أخرى، ولكنهم ينتمون لنفس الحضارة، فالجامع هنا ليست الجغرافيا وليس الايدولوجيا، فالجامع التاريخي هو الجامع الثقافي، ونواته الصلبة منظومة القيم التي تؤمن بها تلك الجماعات، ففي كل ثقافة مؤثرات عديدة، ولكن ما يشكل ثقافة ما هي القيم الحاكمة في هذه الثقافة ونواتها الصلبة الدين أو الأفكار الإيمانية المختلفة كالكونفشيوسية والبوذية وغيرها.
من هنا يرى أن أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، وما يجعل الغرب غرباً، هو مجموعة قيم معينة يرى فيها التطور الذي شكل وجداناً جمعياً غربياً، ويرى أن المفاهيم المسيحية هي التي شكلت هذا الوجدان الجمعي. وعلى هذا الأساس، تحدث عن ثقافة إسلامية وكونفوشية وبوذية وافريقية، فالعامل الرئيسي من وجهة نظره ليست الجغرافية، ولا أيديولوجيا معينة، فالذي يشكل الثقافة من وجهة نظر هنتنغتون هي القيم أو منظومة القيم وفلسفتها، فتفسير معين للإسلام شكل من وجهة نظره منظومة قيم إسلامية، وكذلك المسيحية واليهودية وغيرها من ديانات ومعتقدات تدين بها وتعتقدها شعوب العالم.
وتحدث هنتنغتون عن مجتمعات أطلق عليها مجتمعات ممزقة أو دولة قوية، ولكنها ممزقة بالوجدان فالقيم التي تشكل الثقافة عند تلك الشعوب مختلفة، وأعطى مثال على ذلك تركيا، وبعض الدول متعددة الأديان والثقافات والإثنيات.
وعند السؤال: لماذا تركيا، فجوابه أن قراءته التاريخية للمجتمع التركي أنه جزء من الحضارة الإسلامية، ولكن التجربة التركية في القرن العشرين أي الأتاتوركية أرادت تحويل تركيا الإسلامية إلى دولة أوروبية ما جعلها من (وجهة نظره) مجتمعاً ممزقاً. وتحدث عن مجتمعات ثنائية الثقافة والنموذج، وأعطى مثالاً على ذلك الهند، فقال أن التجربة التاريخية للهند في جزء منها قوي واستمر لفترات طويلة بوصفها جزء من الحضارة الإسلامية، ولكن في جزء كبير من الثقافة في المجتمع الهندي هم الهندوس، فالهند تحكمها ثقافتان كل واحدة منهما تشد أو تدفع باتجاه، وتكلم عن نماذج كثيرة مشابهة اعتبرها مجتمعات ممزقة أو قابلة للتمزق بسبب عدم انسجامها الثقافي والقيمي .
إذن العنصر الأساسي لدى هنتنغتون هو الثقافة ومنظومة القيم التي تحملها، وهذه الحضارات بالضرورة ذاهبة إلى الصراع بالنتيجة وفق رؤيته. والنقطة الثانية في صراع الحضارات- وقد ركز على الحضارتين الإسلامية والسينو أي الصينية التي تستمد قيمها من كونفوشيوس – أن الثقافات في تفسيرها للتاريخ ترى نفسها هي الهدف، بمعنى أنها في تفسيرها هذا يجب أن تكون هي المنتصرة، فأفكارها هي المنتهى الذي يجب أن تصل إليه البشرية. وعليه فإن وجود عدد من الحضارات ترى نفسها هي المنتصرة في النهاية، هذا التصور يدفع حتماً إلى الصراع فيما بينها.
والنقطة الأخرى في نظر هنتنغتون هي أن الفجوة بين الغرب والشرق تزداد وتتسع، حيث سيزداد التقدم التكنولوجي في الغرب، وأيضاً تراكم ثروة سيزداد ما يجعل شعوب وثقافات أخرى غير قادرة على المنافسة مع ازدياد الفجوة المعرفية والتقانية والحضارية ما بين هذه الثقافات، وهنا سيكون أمام الثقافات الشرقية أو خارج الدائرة الغربية خيار أن تلتحق بالغرب كما عربات القطار كاليابان، ولكن ليس كل الحضارات الأخرى سترغب بذلك أو تستطيعه، وعليه فإن ذلك سيولد غضباً عند تلك الشعوب، حيث ستصبح ضعيفة وفقيرة بالقياس للغرب، وهذا الغضب سيتحول إلى فعل وسلوك.
والنقطة الأخيرة في تفسيره للصراع هي أن الصين سوف تصعد بشكل كبير لأنها ستكون قوية اقتصادياً وديمغرافياً، وعندما تتعدى مستوى أو حاجزاً معيناً من القوة ما يجعل منها قوة تحدي حضاري للغرب، ومن وجهة نظره إن هذه القوة ستولد شعوراً لدى الغرب بأن الصراع مع الصين صراعاً حضارياً. وبالفعل من يتابع مطابخ الغرب الثقافية يكتشف تلك النتيجة، وهي أن الصراع مع الصين ليس صراعاً إقتصادياً أو تكنولوجياً، وإنما صراعاً حضارياً، أي صراع قيم وثقافات مختلفة .
لقد نال كتاب هنتنغتون اهتماماً كبيراً في كل دول العالم، لأنه ينظر لأكبر قوة في العالم آنذاك وهي الولايات المتحدة الأميركية، ويساهم في بناء العقل الاستراتيجي الأميركي، إلى جانب هنري كيسنجر، مع أن كيسنجر يصوغ الأفكار وينفذها عندما كان مستشاراً للأمن القومي الأميركي، ومن ثم وزيراً للخارجية، بينما هنتنغتون كان منظراً له مريدين في دنيا الأكاديميات الأميركية أو العالم الأكاديمي، ولعل ما ساهم في تأثير أفكار هنتنغتون عالمه الأكاديمي الواسع وتلامذته، وتقاطع أفكاره مع المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية في فترة القطبية الأحادية التي ابتدأت أول تسعينيات القرن الماضي، والهيمنة الأميركية على المشهد العالمي، وانتهاء الحرب الباردة، فجاءت أفكاره في لحظة انتصار تاريخية، وأيضاً في لحظة حديث عن صراعات أكبر وجدت فيها الشركات الكبرى للسلاح والتقانة ضالتها، واستمرار مصالحها حيث يستمر الصراع، وإن كان بعناوين جديدة، إضافة إلى أن ما ساهم في تفعيل هذه النظرية هو تيار المحافظين الجدد في أميركا، وهم مجموعات مؤثرة في مراكز صنع القرار، ورسم الاستراتيجيات الكبرى، وتهتم بما يسمى تصدير القيم والنموذج الأميركي، فأميركا ليست سلاح واقتصاد، وإنما منظومة قيم يجب الحفاظ عليها ونشرها من خلال أدوات الإمبراطورية الأميركية، وفي مقدمتها الإعلام والقدرة على التصدير، وهذه المجموعات أصبحت في مركز القرار في عهد الرئيس جورج بوش الابن، حيث تم احتلال كل من أفغانستان والعراق، وراهناً الحديث عن الصراع ما بين الغرب بضفتيه والصين الشعبية.
مع كل ما سبق، ونظراً لأهمية تلك النظرية الأطروحة، بدأ الكثير من كتاب العالم بنقدها نقداً شديداً، ومنهم أمارتيا كومار سن، وهو ومفكر هندي واقتصادي يكتب فيما يمكن تسميته نظرية اللعبة، وهي من علوم الرياضيات والقرار، أي كيف تفكر.
يرى أمارتيا أن جزءاً كبيراً من نظرية هنتنغتون قائم على الحتمية التاريخية، فوفق هنتغتون إن مسار التاريخ قائم على الصراع وذاهب إليه، بينما أمارتيا قادم من مدرسة مختلفة، حيث يرى أن اختيارات المجتمع لا تقوم دائماً على تاريخه الثقافي، فهناك إرادة لدى الناس لخيارات جديدة، وليست بالضرورة هي القيم السابقة أو القائمة، فليس بالضرورة أن يكون تاريخ مجتمع أو شعب يؤدي به بالضرورة إلى حتمية خياراته، فهي قد تكون موجودة، ولكنها ليست الوحيدة والحاسمة. والنقطة الثانية التي نقد بها هنتنغتون أن الغرب هو وحدة ثقافية غير صحيح، فثمة قيم تغيرت في الغرب من التضاد إلى التضاد عبر التاريخ، وواقع الأمر أن ما تقوله عن قيم الغرب هي نتاج تفاعلات ما بعد الثورة الصناعية، وتحديداً المائة وخمسون سنة الماضية، فما يقوله هو نتاج تجربة تاريخية قصيرة جداً بالقياس للتاريخ، فلا يوجد قيم ثابتة موحدة للغرب عبر التاريخ، فهي قيم نتاج حقبة تاريخية معينة للغرب.
كما نقد المفكر باول بيرمان، وهو يمثل النقيض الأميركي لصموئيل هنتغتون، لجهة كونه من مدرسة مختلفة مخصبة للأفكار تتركز في نيويورك، أن ما يقوله هنتنغتون خاطئ ليس أميركياً وإنما تاريخياً، ففي أميركا ذاتها لا يوجد شيء اسمه حتمية تاريخية، فقمة نجاح التجربة الأميركية كانت استيعابها لثقافات مختلفة وصياغة ثقافة متجددة دائماً، فلا توجد ثقافة جامدة فعنفوان التجربة الأميركية وفق وجهة نظره أنها تقوم على استيعاب الجديد وديناميكيتها، فلا وجود لحتمية تاريخية ولا وجود لثابت حضاري اسمه الغرب.
أما النقد الثالث لنظرية أو أطروحة هنتنغتون، فقد جاءت من المفكر العربي الفلسطيني ادوارد سعيد الذي كتب كثيراً منتقداً فكرة صراع الحضارات، ولعل أول نقطة في نقده هذا كانت تشبه ما قاله أمارتا سن بنفي مقولة الحتمية التاريخية، ولكنه وضع يده على هذه النقطة من زاوية مختلفة من منطق التعامل مع الفكرة، وهي أنه لا توجد فكرة أو حتمية ثابتة، وإنما كل فكرة أو ثقافة تتعامل مع ما تلاقيه من مواجهات، فالثقافة الغربية عندما تتجه نحو شعوب أخرى لتوطين ثقافتها الغازية ستلاقي حتماً مواجهة من ثقافة تستهدفها أو غزواً ثقافياً حاصلاً، إلا إذا كان ذلك القادم مناسباً ولطيفاً، وغير إلغائي، فلا توجد حتمية انتصار لثقافة، وإنما فعل وردة فعل، ففكرة هنتنغتون بهذا المعنى، حسب ادوارد سعيد، فكرة هيمنة استعمارية تستند إلى تفكير استشراق،ي فهي مشاريع سياسية لجهة السيطرة . أما النقطة الثانية التي أثارها فهي واردة في كتابه المعروف “الاستشراق”، ففكر هنتنغتون فكر استشراقي فثمة نظرة ضيقة لتاريخ الشرق وحضارته من قبل الاستشراقيين، وصور انطباعية تحمل شكل من أشكال الاحتقار للشعوب الشرقية وثقافتها على خلفية ما سمي رسالة الرجل الأبيض ونظرة استنسابية ورغبوية لثقافة الشرق وينمذجها ويبني عليها مقولاته العنصرية، ويبني عليها صورة عمومية نمطية تترسخ في الوعي الجمعي الغربي، وهي ذات العقلية التي بنت فكرة الاستعمار، ونظرت لها نظرة شمولية ومنتقاة. والنقطة الثالثة التي نظر إليها ادوارد سعيد متعلقة بالعالم العربي، حيث قال بمنتهى الصراحة أن هناك جهلاً لدى هنتنغتون بالعرب والحضارة الإسلامية، وإن الجزء الغالب من فكره هو مستقى من برنارد لويس، وهو أهم من كتب في تاريخ الإسلام بجامعة بيرستن، وكان على خلاف مع ادوارد سعيد، حيث يرى أن هنتنغون قد بنى أفكاره عن الإيلام والحضارة الإسلامية من كتابات برنارد لويس المتحيزة والكارهة للإسلام. أما النقطة الرابعة التي أثارها ادوارد سعيد أن ما يقوله هنتنغتون غير مرتب ومتناسق ومتناقض، بل واستمرار لما جرى عليه مستشرقون ومنظرون أوروبيون قبل مائتي عام للتمهيد لاستعمار الشرق سواء في آسيا أو أفريقيا، فهو محاولة لتبرير سياسات غربية تعيد إنتاج مفهوم الاستعمار بصورة جديدة وهجومية، وليس بالضرورة أن تكون بطريقة عسكرية، فربما كانت اقتصادية أو سياسية أو بفارق قوة التقانة، من هنا يكون هنتنغتون استمراراً للفكر الاستشراقي.
والنقطة الأخيرة التي بينها وأشار إليها سعيد هو لفته لنظر هنتنغتون بقوله أنه بدل أن تدفع باتجاه أفكار تؤدي إلى الصراع تعال للنظر للحضارات، ومع أنه ثمة صراعأ ولكنه ليس بالضرورة صراعاً حتمياً، فيمكن أن يكون ثمة تفاعل وتكامل بين الحضارات كما حدث في مراحل تاريخية عديدة، فثمة معرفة إنسانية تصل إلى معرفة إنسانية أخرى وتطورها والعكس صحيح، فليس بالضرورة أن تتصارع الحضارات، فثمة معارف إنسانية وقيم إنسانية وتجارب إنسانية يثري بعضها البعض، والذي يثرى بالنتيجة الوعي الجمعي للإنسانية، ومشكلة هنتنغتون أنه نظر إلى الثقافات والحضارات الإنسانية نظرة اختلاف، بينما في فكر ادوارد سعيد وغيره من مفكرين أن ثمة حضارات تثري بعضها البعض، وبهذا تكون البشرية تسير بما هو ابعد من الصراع، أي تعاون فكري وقيمي وإنساني في صالح البشرية.