“كبرياء الحروف” إجلالاً وإكباراً للّغة العربية
أمينة عباس
خلافاً لما اعتاد عليه الشعراء في تسمية مجموعاتهم الشعرية باسم إحدى قصائد المجموعة، فضّل الشاعر مجيب السوسي في مجموعته الشعرية الأخيرة ـ والصادرة حديثاً عن اتّحاد الكتّاب العرب ـ اختيار عنوان جامع لكل القصائد هو “كبرياء الحروف” إجلالاً وإكباراً للغته العربية، يقول: “يوحي العنوان بعظَمة اللغة العربية التي يتجرأ بعضهم على طعنها من الخلف وفي الصدر، وقد أردتُ التأكيد على عظَمتها، فأسميتُ المجموعة “كبرياء الحروف” وواجبنا اليوم إصلاح ما يضعفها على أيدي من يدّعون الشعر، فالقصيدة منذ امرؤ القيس وحتى الآن تتعرض لتبدلات كثيرة إلى أن وصلت إلى قصيدة النثر، وأنا لستُ ضدها بل ضد من يطعن بالمفردة العربية فيها.. من هنا أرى أنه من القيمة العليا أن نحترمها ونجلّها بدءاً من لباسها السابق وانتهاء بلباسها المعاصر”.
واحفتاء بالمجموعة، أقام فرع إدلب للاتّحاد في المركز الثقافي العربي في “أبو رمانة” ندوة أدارها الأستاذ عمار بقلة مدير المركز، وشارك فيها الإعلاميان شذا حمود وسامر الشغري، يقول أ.محمد خالد الخضر رئيس فرع إدلب في اتّحاد الكتّاب العرب والمشرف على الندوة: “أسعى من خلال منبر المركز الثقافي العربي إلى تسليط الضوء على المبدعين الحقيقيين ونبذ من يدّعي الإبداع وهو بعيد عنه، وإيماناً مني بأن الإعلام مرآة الثقافة ورافد من روافدها، وأحرص على دعوة الإعلاميين ليكونوا مشاركين أساسيين في الندوات التي يقيمها الفرع لترسيخ حالة ثقافية يكون للإعلامي فيها دور كبير”.
وبدأت الإعلامية شذا حمود مشاركتها بالتعريف بالشاعر قائلة: “هو واحد من أهم شعراء العصر الحديث الذين يمتلكون موهبة حقيقية وثقافة متنوعة ومعرفة تغني ما يكتبونه ويقدمونه في الحاضر والمستقبل، وفي عام 1980 صدرت له أول مجموعة شعرية عن اتحاد الكتّاب العرب وكانت بعنوان “المرافئ أيقظها الموج” ثم تلا هذه المجموعة ديوان “الشمس تدمن وجه البلاد” ودواوين تتالت فيما بعد، وأشير إلى أن الشاعر كتب شعر الشطرين والتفعيلة وعبَّر عن انفعالاته الوجدانية بقصائده بأسلوب يجمع الخيال والواقع والأصالة والحداثة لينسج علاقة جميلة بين نصه والقارئ، وهو الذي وإن بدأ بكتابة الشعر بشكله التراثي الأصيل لكن إصداراته الشعرية المتتالية جمع فيها بين الحداثة والأصالة التي يتجلى فيها الوجدان بما تعكسه من عواطف صادقة تنسجم مع القارئ”.
وبدا أن مجيب السوسي حسب كلام حمود لا يحفر خندقاً ضد القصيدة الكلاسيكية أو قصيدة التفعيلة: “إنما هو مع اللونين والشكلين، لكنه يسأل المساندين لقصيدة النثر أو التي يسمونها بهذه التسمية لماذا لا يسمونها نصاً أدبياً ومنهم من كتبها بطريقة سامية ومتألقة وعالية، منتقداً من يسمي نفسه شاعراً ويرشق الوسط الأدبي بعبارات لا تليق بالشعر، وهو كذلك مع القصيدة المباغتة بمفرداتها وتعبيرها الهارب من لباس النظم وجموده ومباشرته، ومجموعته “كبرياء الحروف” تتضمن مواضيع عاطفية تأخذ أشكالاً مختلفة، بالإضافة إلى الموضوعات الوطنية والاجتماعية والإنسانية التي أثَّرت على وجدان الشاعر، فاختلطت فيها العاطفة بحبّ الوطن وحبّ دمشق، وكان حريصاً فيها على الالتزام بالموسيقا التي تتصاعد معها عاطفة ارتكزت عليها النصوص باعتبارها أساس الانفعال الوجداني الذي يكون الشعر فيه، متوخياً الحذر من العثرات الشعرية بكل أشكالها، ومتجهاً في بعض القصائد إلى حالات نفسية صاغها بشكل فني مطرز بالصور والدلالات، ومختزلاً المعاني وتكوينها بشكل فني متوازن في الموضوع وموحد في العاطفة”.
وتشير حمود إلى حب الشاعر لدمشق الحاضرة في هذه المجموعة: “لأنه عاش فيها أجمل أيامه، وكتب فيها أحبّ نصوصه، حيث تغزَّل بها في أكثر من قصيدة كحبيبة جميلة وقوية وصامدة، فتظهر عاطفته متأججة حين يقول: “إن الضحى ضلَّ الطريق، وفجأة وجدوه يرتع في دمشق سعيداً.. هو دائماً يرتاد مسقط رأسه، ويظل نحو أصوله مشدوداً” ليجمع في قصيدة حملت عنوان “محبة” بين عشقه لحبيبته وانتمائه لوطنه، راسماً انعكاس مكنوناته التي تؤكد أنه متمسك بصدق الحب وعشق الانتماء والهوية، إذ يقول: “عشقتُ كثيراً وطفتُ بلاداً”، أما القدس “فهي في قلب الشاعر مع الخفقات، لتأتي مع القصائد بشكل شديد الانتماء وشديد القوة في المطالبة بالتحرير والعودة كقوله في قصيدة “نداء”: “المنادي يا قدس رد الصدى.. في جميع المساجد غير أن الولاة أو الشعراء قالوا.. وماذا تفيد الولائم للسادرين.. وماذا تفيد القصائد”.
أما الإعلامي سامر الشغري فوجد أن الغزل يلف مجمل قصائد الشاعر في هذه المجموعة، يقول: “أحبّ هذا الغرض من الشعر الذي كان أجمل ما نطقت به العرب، فقد كان الغزل دائماً عماد الشعر العربي قبل أن تطحننا الحروب والأزمات ليتراجع دوره في السنوات الأخيرة، لكنه سيبقى الأنقى والأجمل والأصدق، وقد كان سواد المجموعة، فالسوسي يتنفس غزلاً فيها”.
ويضيف الشغري: “أعتقد بأن ه على أي شاعر يريد حجز مكان له في قافلة الشعر أن يكون صوت نفسه بعيداً عن تقليد من سبقوه، وهذا ما فعله السوسي، ساعياً بدأب لكي يقدم ما هو جديد وغير سائد، فزاوج بين المعاصر والقديم كما في قصيدة “أمواج” وجدّد كذلك في القافية، فعادة يختم الشاعر بيت قصيدته الأول بقافية للشطرين، لكن السوسي استخدم قافية واحدة، ففي الشطر الأول يفاجئنا بقافية تجعلنا ملتبسين كما في قصيدة “سؤال” في حين أتى في قصيدة “مقاطع” بعبارة من شعر بشار بن برد، حيث يقول: “فالعشق عندي بدؤه أذني” ليقدم أيضاً معان صادمة في قصيدة “تجوال” مثل “كي لا أخدش عذرية عينيك” ثم يعود بتشبيه معاكس فيقول: “يا ذات العينين السارقتين”، وفي قصيدة “حب عذري” وجدت حالة أراها للمرة الأولى، فالشاعر يذكر بالاسم الشاعر الذي استعار منه، ليقدم في قصائد “رفة جفن” و”عاجل” و”عمر” أنموذجاً جميلاً للمقطوعة الشعرية المشبعة المكثفة في خطوة لتطوير الشعر”.
وفي مداخلة له يشير الشاعر توفيق أحمد إلى أن الشاعر مجيب السوسي “شاعر كبير، له تجربته المهمة ويحمل سريرة نبيلة تجعله لا يتوانى عن تقديم الدعم والمساعدة لطالبيها، ومعرفتي به تعود إلى عام 1980 حيث التقيتُ به في مجلة “الثقافة” لصاحبها مدحة عكاش وكان قد أصدر مجموعته الأولى، وبعض قصائده تنتمي لما أطلق عليها “القصيدة المدورة” أو قصيدة السطر الواحد وقلّ من ينظمها”.
في حين بيَّن الناقد أحمد هلال أن “البعد التراثي تجربة مهمة في مجموعة السوسي الأخيرة بتعالق نصوصه مع بعض ما كتبه المتنبي بعيداً عن الاستعراض، وحبّاً باللغة العربية، أما التناصّ الموجود في بعض قصائد الشاعر فهو تناصّ الهضم، يحاور من خلاله بعض الشعراء بوظيفة جمالية تحاكي ثقافة الشاعر ومرجعياته وأفقه الفكري وليس مزاجه فقط، وهو الذي يمزج بين كل الأشكال في خلطة مبدعة ليقدم المعنى والدلالة، أما الغزل لديه فلا يخصّ شخصاً بعينه يحيي من خلاله الإنسان”.