الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

أسئلة الإبداع..!

حسن حميد

أعترف بأنني، وكلما لفّتني الحيرة، أذهب إلى معلمي الذي اعتزل الناس، والمخالطة، والألفة التي يصفها بالخادعة والزائلة الزائفة، والذي رمى نفسه بين أيدي الكتب التي اختارها بعناية فائقة، والتي يعود إليها عودة العاشق إلى الأمكنة التي آخى عشقه فيها، أذهب إليه لأسأله عن اختفاء الحرارة في الأحاديث الدائرة حول الأدب، والإبداع، والكتابة، والحداثة، ولأسأله أيضاً عن اختفاء سلالم المجد والشهرة، والحضور المدهش للأدباء والفنانين وأهل الأكاديميات والمشتغلين فيها، أو غيابها.

قال: “حين تتغيّر الأحلام تتغيّر السلوكيات؛ وحين تتغيّر النفوس، تتعثّر معطياتها وترتبك. نلاحظ اليوم، وبوضوح، كيف تراجعت الأسئلة الذهبية عن النجاح، واختفت القناديل الباحثة عن الأسرار، وانهدّت الأجساد تعباً قبل أن تمشي في درب واحد أصيل من دروب الإبداع الحقيقي، أعني الإبداع الذي يضيف للإبداع القديم روحاً تجدّد العودة إليه، واستكشاف ما فيه، والإضافة إليه”.

قلت: “لكن الكتب التي كانت نادرة، وقليلة، ورحلتها صعبة وجبلية في الوصول إلى أيدي الكتّاب والمبدعين، باتت اليوم كثيرة ومتاحة، وطرق وصولها سهلة جداً، فكل من يحمل هاتفاً نقالاً باتت لديه مكتبات عظيمة، وبلغات متعددة، وما كان مرجواً وحلماً في لقاء الأدباء والأعلام والمشاهير قديماً بات متاحاً وسهلاً في هذه الأيام، وإن كانت من معوقات ظاهرة هنا أو هناك، فإنّ جوزها ممكن ومقدور عليه”.

قال: “ما فائدة كل هذا، إن امتلأت القلوب عتمة، وإن غابت المبصرات، وتاهت الدروب، وامحت الأحلام الكبيرة، وتبدّدت الأشواق إلى الثقافة الحقة، والإبداع الحق، ومخالطة سعداء الثقافة والإبداع؟ الأصل في الظهور والنيافة هو الإبداع، ودائماً كان الإبداع عزيزاً، وهو خصيصة الندرة من أهل المواهب، ومن أهل الأحلام ذات المرامي البعيدة.. إنّ الرضا عن كل منتج أدبي وثقافي وفكري وفني يظهر في أيامنا الراهنة، هو ما يجعل الحرارة مفقودة في كل حديث عن الحال الثقافية، وإنّ المجاملة، وفقدان الجرأة في قول الحقيقة، وتسيّد ثقافة التجميل، ورمي الكلام على عواهنه من دون دراية أو تبصرة بالمخاطر، كل هذا يجعل الكتابات والإبداعات الجديدة في حال من الضمور والذبول وعدم الحضور، والأخطر من هذا كله هو الظن، ظن الكتّاب والمؤلفين، بأنّ كل ما يكتبونه وينشرونه، في هذه الفترة من الزمن، هو إبداع مهول، ومدهش، ولم يأتِ به الأوائل، وهم يتوهمون بأن نشر ما يكتبونه هو ما يعطي نصوصهم قيمة، ثم، وهنا الكارثة، أن يتحوّل هذا الظن إلى قناعات راسخة لا يغيّرها شرح أو تأويل، بأن شاعرهم يماثل السياب في الأهمية، وساردهم يماثل حنا مدينة في الأهمية”.

قلت: “وهل نحن، أيها المعلم، في حال من الجدب أو التصحر، أو قلة الحيلة؟”.

قال: “لا، نحن في حال من العناد الذي ليس من ورائه طائل أو نتيجة، نحن في حضرة الازورار الذي يصل إلى رتبة المعاندة تجاه الكتب ذات الخصب والتوليد، والرضا بهجر ينابيع المعرفة الأصيلة وتجاهلها، وابتعاد مشبع بالخوف والرهبة عن أهل الخبرة والإبداع الذين شهدت لهم الأيام والأذواق بأنهم أهل أصالة في إبداعهم وكتاباتهم، والأخطر هو ابتعاد هؤلاء الكتّاب كلياً عن الخيال وما فيه من نعم، وجدّة، وبراعات تجعل من القراءة طبقات من الدهشة والغنى المعرفي؛ إنّ من يبتعد عن الكتب الحقيقة المليئة بالخصب أو الدالة عليه، والكتب المفجّرة للخيال، والحالمة بالمضايفة، والكتب، سواء أكانت قديمة أو جديدة، المختلفة بأسئلتها، وتخيّر موضوعاتها، وزوايا نظرها، وغاياتها، والابتعاد عن المبدعين الأصلاء، والكتّاب أهل البراعة، ومن بعد الابتعاد عن صداقة الخيال، لهي مكونات ثلاثة قادرة على إماتة روح الإبداع في الكتابات والنصوص الجديدة، وقادرة على حجب أي بارقة أمل أو دهشة في النصوص الجديدة أيضاً”.

قلت: “والحل، أيها المعلم، لكي تتكاثر الخطا الذاهبة نحو الإبداع الجميل؟”.

قال: “لا بدّ من عشق الإبداع، والإحساس به، وتدريب النفس على عدم الرضا بما هو نافل، وهش، وأخرس، ومصاب بالاستسقاء”.

Hasanhamid55@yahoo.com