دراساتصحيفة البعث

من 11 أيلول إلى 7 تشرين الأول.. انهيار “الحرب المزعومة على الإرهاب”

هيفاء علي

لسنوات نفّذت الولايات المتحدة برنامج “إسرائيل” لزعزعة الاستقرار الإقليمي باستخدام أدوات الظلّ لتبرير ما سمّته “الحرب على الإرهاب”، لكن يوم 7 تشرين الأول 2023 وضع حداً لمشروع واشنطن الحربي الذي لا نهاية له، إذ بضغطة زر واحدة أطلق خصوم أمريكا العنان لـ حرب طويلة ضد “إسرائيل”.

كان الهدف من أحداث 11 أيلول 2001 هو فرض وتكريس نموذج استثنائي جديد في شباب القرن الحادي والعشرين، لكن التاريخ قرّر خلاف ذلك. تمّ تقديم أحداث 11 أيلول على أنها هجوم على الوطن الأمريكي، وذريعة لإطلاق الحرب العالمية المزعومة على الإرهاب، التي انطلقت في الساعة 11 مساءً من اليوم نفسه.

في البداية أطلق البنتاغون على هذا المصطلح اسم “الحرب الطويلة”، ثم تمّ تعديله لاحقاً من قبل إدارة باراك أوباما ليصبح “عمليات الطوارئ الخارجية”.

إن الحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على الإرهاب، وكلفت هزيمة عدو وهمي 8 تريليون دولار أميركي، تسبّبت في مقتل أكثر من نصف مليون إنسان، وأدّت إلى نشوب حروب غير قانونية ضد سبع دول، وقد تمّ تبرير كلّ هذا على أساس “أسباب إنسانية” والتي من المفترض أن تحظى بدعم “المجتمع الدولي” قبل أن تتمّ إعادة تسمية هذا المصطلح أيضاً إلى “النظام الدولي القائم على القواعد”! ويظل السؤال الأساسي من المستفيد من هذا؟ هو السؤال الأساسي في كلّ ما يتصل بأحداث الحادي عشر من أيلول، فهناك شبكة ضيقة من المحافظين الجدد المتحمسين المدافعين عن “إسرائيل”، والذين يتمركزون في مواقع إستراتيجية داخل مؤسسات الدفاع والأمن القومي تحت قيادة نائب الرئيس ديك تشيني، الذي شغل منصب وزير الخارجية. أما وزير الدفاع في إدارة جورج دبليو بوش الأب فقد تحرك للمضي قدماً في تنفيذ الأجندة المخططة منذ فترة طويلة لمشروع القرن الأمريكي الجديد. وكان هذا البرنامج الضخم ينتظر في الأجنحة الزناد الصحيح -“بيرل هاربر الجديد”- لتبرير سلسلة من عمليات تغيير الأنظمة والحروب في معظم أنحاء الشرق الأوسط والدول الإسلامية الأخرى، وبالتالي إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية لصالح “إسرائيل”.

إن الكشف سيئ السمعة الذي أعلن عنه الجنرال الأميركي ويسلي كلارك عن مؤامرة سرية دبرها نظام تشيني لتدمير سبع دول إسلامية رئيسية على مدى خمس سنوات، من العراق إلى إيران إلى سورية وليبيا، يثبت أن التخطيط قد تمّ بالفعل مسبقاً، وكان لدى هذه البلدان المستهدفة شيء واحد مشترك، ألا وهو أن هذه الدول فهي من أشد الأعداء للكيان المحتل ومدافعاً قوياً عن الحقوق الفلسطينية. أما الصفقة الجيدة، من وجهة نظر تل أبيب، فهي أن الحرب على الإرهاب ستدفع الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين إلى شنّ كل هذه الحروب المتسلسلة التي يستفيد منها الإسرائيليون باسم “الحضارة” وضد “البرابرة”.

لم يكن من الممكن أن يكون الإسرائيليون أكثر سعادة أو رضا عن الطريقة التي تسير بها الأمور، فلا عجب أن يكون يوم 7 تشرين الأول 2023 انعكاساً لأحداث 11 أيلول، لأن أوجه التشابه كثيرة في أكثر من طريقة، ولكن بالتأكيد ليس بالمعنى الذي يتوقعه أنصار “إسرائيل” وعصابة المتطرفين على رأس تل أبيب.

سورية نقطة التحول

تتفوّق الهيمنة الغربية في بناء الروايات، وهي تتمرغ حالياً في مستنقعات الخوف من روسيا، وكراهية إيران، وكراهية الصين التي خلقتها بنفسها، إن تشويه الروايات الرسمية والثابتة، مثل رواية الحادي عشر من أيلول، يظلّ من المحرمات المطلقة.

لكن البناء السردي الخاطئ لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، فقبل ثلاث سنوات، في الذكرى العشرين لانهيار البرجين التوءمين وبدء الحرب المزعومة على الإرهاب، شهد العالم ارتباكاً كبيراً عند تقاطع آسيا الوسطى وجنوب آسيا عند عودة حركة طالبان إلى السلطة، واحتفلت بانتصارها على أفغانستان. وفي ذلك الوقت، كان هاجس الدول السبع في خمس سنوات، والذي كان يهدف إلى صياغة “شرق أوسط جديد”، يخرج عن مساره في جميع المجالات. وكانت سورية نقطة التحول، حيث كان الهدف من العدوان العالمي على سورية، والذي لم ولن يتحقق مهما طال الزمن، هو انهيار سورية المستقلة لفتح الطريق أمام تحقيق الكأس المقدسة للقوة المهيمنة و”إسرائيل” وتغيير نظام الحكم في إيران.

دخلت قوات الاحتلال الأمريكي إلى سورية أواخر عام 2014 بحجة محاربة “الإرهاب”، بينما كانت واشنطن تستخدم مجموعتين إرهابيتين رئيسيتين “تنظيم داعش، والقاعدة”، بفروعها المختلفة في محاولة يائسة لتدمير سورية. وقد تمّ إثبات ذلك بشكل قاطع من خلال وثيقة رفعت عنها السرية في عام 2012 من وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، وأكدها لاحقاً الجنرال مايكل فلين، رئيس وكالة استخبارات الدفاع عندما تمّ كتابة التقييم: “أعتقد أنه كان قراراً متعمداً من قبل إدارة أوباما” عندما يتعلق الأمر بمساعدة ودعم الإرهاب وليس بمحاربته.

لقد تمّت صناعة “داعش” في مطبخ الاستخبارات الغربية لمحاربة الجيشين العراقي والسوري، وقبل ذلك نشأت المجموعة الإرهابية من تنظيم “القاعدة” في العراق، ثم أعيد تسميتها إلى “الدولة الإسلامية في العراق” ثم أعيدت تسميتها “داعش”، بعد عبور الحدود السورية في عام 2012.

لكن دخول روسيا إلى المسرح السوري بناءً على طلب الحكومة السورية في أيلول 2015 غيّر المشهد كلياً، بعدما قرّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانخراط فعلياً في الحرب ضد الإرهاب على الأراضي السورية قبل أن يصل هذا الإرهاب إلى حدود روسيا الاتحادية، خاصةً وأن الروس كانوا قد تعرضوا بالفعل لنفس النوع وطريقة العمل من الإرهاب في الشيشان في التسعينيات، وفي وقت لاحق، فرّ العديد من الإرهابيين الشيشان، وانضموا في نهاية المطاف إلى منظمات إرهابية في سورية.

بطبيعة الحال، إن المؤسّسة الأمنية الأمريكية لن تغفر لهزيمة إرهابييها في سورية، لذلك وبناءً على أوامر من الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، اغتيل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس في بغداد في كانون الثاني 2020.

دفن إرث 11/9

استغرق إنجاز سليماني الاستراتيجي المتمثل في إنشاء وتنسيق محور المقاومة ضد “إسرائيل” والولايات المتحدة سنوات من الإعداد، ففي العراق تمّ دفع وحدات الحشد الشعبي إلى طليعة المقاومة، كما تمّ إنشاء الاتحادات الشعبية الموحدة عندما بدأ تنظيم “داعش” هجمته في العراق. وقد حظيت العديد من وحدات الحشد الشعبي بدعم من فيلق القدس التابع لسليماني، ويعود الفضل في هزيمة “داعش” في العراق في المقام الأول إلى الاتحاد من أجل الحركة الشعبية، الذي ساند الجيش العربي السوري في محاربة الإرهاب العالمي نيابة عن العالم أجمع. وحدات الاتحاد من أجل الحركة الشعبية في الجيش العربي السوري، وهذا هو معنى الحرب الحقيقية على الإرهاب، وليس هذا المفهوم الأمريكي السيئ التسمية “الحرب على الإرهاب”، وبالتالي فإن سياسة فرق تسد لا تنطبق ببساطة على إستراتيجية المقاومة العربية في مكافحة الإرهاب.

وهكذا فإن ما حدث في 7 تشرين الأول 2023 أخذ أخلاقيات قوى المقاومة الإقليمية إلى مستوى جديد كلياً، وبضربة واحدة، دمر أسطورة جيش الاحتلال الإسرائيلي “الذي لا يقهر” وأولويته المتبجحة في المراقبة والاستخبارات.  وحتى مع استمرار الإبادة الجماعية المروعة في غزة، فإن الاقتصاد الإسرائيلي يتعرّض للاستنزاف.

كما أن الحصار الاستراتيجي على باب المندب والبحر الأحمر الذي يفرضه اليمن على أي سفينة مرتبطة “بإسرائيل” أو متجهة إليها هو ضربة معلم من حيث الكفاءة والبساطة، فهي لم تقم بالفعل بإفلاس ميناء إيلات الإسرائيلي الاستراتيجي فحسب، بل قدمت إهانة مذهلة للهيمنة البحرية، حيث هزم اليمنيون البحرية الأمريكية بحكم الأمر الواقع.

وفي غضون أقل من عام، دفنت الاستراتيجيات المنسقة لمحور المقاومة الحرب الكاذبة على الإرهاب ومليارات الدولارات المصاحبة لها تحت الأرض، وبقدر ما استفادت “إسرائيل” من أحداث ما بعد 11 أيلول، فإن تصرفات تل أبيب بعد 7 تشرين الأول سارعت إلى التعجيل بتفكيكها.

واليوم، بينما تدين الأغلبية العالمية بشدة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، تبدو دولة الاحتلال وكأنها دولة منبوذة، تشوّه سمعة حلفائها وتكشف نفاق الهيمنة كل يوم. وفي نهاية المطاف، كل الصوت والغضب الناتجين عن أحداث 11 أيلول، والحرب على الإرهاب، والحرب الطويلة، طوال عقدين من الزمن، انتشر إلى ما كان يخشاه الأمريكيون بالضبط.

ولم يبرز الأمر مجرد “منافس” بسيط، بل شراكة إستراتيجية حقيقية بين روسيا والصين، والتي تحدّد لهجة جديدة في أوراسيا، وفجأة نسيت واشنطن الإرهاب، واعتبرت روسيا والصين ” أعداء” لها وأول “تهديدين استراتيجيين” للولايات المتحدة.

والأمر الغريب هو أن الحرب المزعومة على الإرهاب، والتي صاغها المحافظون الجدد بعد أحداث 11 أيلول مباشرة، تتحول الآن إلى حرب الإرهاب والتي تجسّد المحاولة اليائسة لوكالة المخابرات المركزية والمخابرات البريطانية للتعامل مع سمّوه “العدوان الروسي” في أوكرانيا، والذي لا يمكن لهذا إلا أن ينتشر إلى مستنقع كراهية الصين، حيث تنظر وكالات الاستخبارات الغربية ذاتها إلى صعود الصين باعتباره “التحدي الجيوسياسي والاستخباراتي الأعظم” في القرن الحادي والعشرين.