ثقافةصحيفة البعث

الواقعية الوصفية سمة الكتابة في زمن “طوفان الأقصى”

أمينة عباس

لأنها لم تكن حدثاً عابراً صوَّبت معركة طوفان الأقصى بوصلة الكثيرين بعد تيه ويأس أصاب بعضهم اتجاه القضية الفلسطينية، فأرخت بظلالها وتأثيرها على الثقافة والأدب الذي واكبها كملحمة ما يزال الشعب الفلسطيني يسطّرها بدمائه وتضحياته، فحفرت في أقلام الكتّاب وبثّت روحاً جديدة فيها، نهلت من الثمن الغالي الذي يدفعه الشعب الفلسطيني اليوم في سبيل البقاء والحياة والتمسّك بالأرض، يقول د. ثائر عودة في المحاضرة التي ألقاها، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي في الميدان: “منذ اللحظات الأولى لطوفان الأقصى استعادت الثقافة أدبياتها نفسياً وروحياً بعد ما طال الأدب المقاوم من تهميش وإقصاء إثر عمليات التطبيع التي وقّعتها بعض الدول العربية، فشكّلت معركة طوفان الأقصى ظاهرة أدبية عميقة بسبب فداحة وعظم المصاب وجلال الصمود والثبات، ما دفع الكتّاب إلى تسجيل حضورهم في ميدان الفن والثقافة والأدب، فظهر أدب جديد اتخذ من غزة وطوفانها موضوعاً له في كل نصوصه التي مجّدت المقاومة، وأكدت حتمية انتصارها والتعجّب من روح التضحية والصمود وتوثيق الأحداث بنَفَس سرديّ ونطاق حكائيّ من دون هذه المحطة الفاصلة في التاريخ التي كانت وليدة الصورة البصرية الكثيفة والمتابعة اللحظية للحدث، فاتّسم ما يُكتب بالواقعية الوصفية التي ستشكل معجماً جديداً في لغة الأعمال الأدبية العالمية لكثرة النماذج الواقعية المرصودة عبر الصور الغزيرة المتلاحقة للأحداث التي غذّت منابع الإبداع، فعادت ظاهرة المطولات الأدبية وهي مطولات درامية في أكثرها توثق للحدث شعورياً وأسلوبياً، إذ امتزجت الغنائية الفردية بالجماعية الملحمية في تناغم وائتلاف، وتلبّست حالة الأديب حالة غزة، فعاشت معه وصار ناطقاً باسمها، متفاعلاً مع غليانها، متأثراً بشدّة بالصورة الحسّية للدم والدمار، فسخّر قلمه من أجل الاشتباك مع جوعها وعطشها وحالة الحصار فيها ورفضها للاستسلام وإصرارها على كنس المحتل حتى لو اقتحم أزقّتها وزرع الدبابات في أحشائها، لقد سخّر المبدع قلمه لكلّ هذا وأكثر ليكون في جحيم المركز لا الهامش”.

ولا ينكر عودة أن المبدع يصاب عادةً بالإرباك المركّب النفسي والفني قبالة الأحداث الكبرى والهزات العنيفة، ولا يدري ما يقول لتقفز قبالة وعيه تساؤلات عديدة: “تتعلق بجدوى الكتابة والناس في طوفان الأقصى تكتب بالدم والعدو يكتب بالنار، فيصاحب المبدعَ إرباكٌ نفسي حين يشاهد حجم الدمار والمأساة والكوارث ومَشاهد القتل والإبادة، وربما يدفعه الإرباك إلى رمي القلم وتمزيق الورق ليصرخ صرخة داخلية مدوية: “أشعر أن ما سأكتبه لا قيمة له ولا جدوى”، بالإضافة إلى إرباك آخر يتعلق بنوع محدّد من الإرباك خاص باللغة التي سيكتب فيها وطريقة البناء الفني للمنتج الأدبي الذي سيعبّر عما يحدث، لكنّ زمن طوفان الأقصى دفع المبدع المتأمل إلى التخلي عن برودة التأمل والانفجار والارتطام بالحقيقة والاشتباك معها وفيها، فأعادت أحداث الطوفان رسم تحالفات الفن والأدب والثقافة، وأعادت قيم العاطفة الانفعالية إلى الصدارة وأشعلت شرارة الكتابة لدى المخضرمين والمبتدئين، واستطاعت أن تكون رحماً يتخلّق فيه الأدب من جديد”.

وكناقد أكاديمي ومتمرّس في مجال النقد ومن مؤلفاته “النص الروائي الفلسطيني، نقد النقد، المخيم في الأدب الفلسطيني، بنية النص السردي عند الروائي غالب هلسا”   وعلى الرغم من كل ما تقدم به وذكره لم يتجاهل عودة في محاضرته المآخذ على هذه الكتابات التي ولدت من رحم طوفان الأقصى، فيقول: “لم تستطع هذه الكتابات إعادة إنتاج الحدث في صورة تخييلية، وسبب ذلك أن هذا الأدب كُتب في حقل الأزمة وكثافة الصورة ومباشريتها، وتوجّه في معظمه إلى الجمهور العادي، ما أدى إلى هبوط المستوى الفني وركاكة في البناء من دون امتدادات واسعة للّغة والأدوات الأخرى مع عدم تنوع الأفكار الفرعية التي تشكل الوحدة الموضوعية للنص المكتوب والكتابة عن الصورة الخارجية للطوفان وعدم الدخول في أعماق النفس التي تواجه وتقاوم وتتعرض للويلات بآن واحد، فمالت الكتابات إلى التقريرية والمباشرة، مع ظهور كتابة نقدية لاذعة للمقاومة بسبب العاطفة الجياشة المصابة بالعجز والإحباط نتيجة شيوع الدم واختلاط أشلاء الأطفال والنساء بالرماد وبقايا الدمار”.

ويخلص عودة إلى القول: “ما يحدث في غزة ليس جديداً على الشعب الفلسطيني الذي قاوم وما يزال يقاوم الاحتلال الصهيوني، وكل الروايات والقصائد والشعر الذي كُتب وسيُكتب سوف يحرم العدو من أن يمارس محوه للذاكرة الفلسطينية، وسيصبح المبدع مؤرخاً عظيماً لأنه وثّق حقيقة بدت عصيّة على التصديق في عصر التطبيع، والسؤال الأكثر أهميةً هنا هو: إذا لم تُكتب كل حكايات طوفان الأقصى ماذا سيكون مصيرها؟ هل ستصبح ملكاً لأعدائنا؟ هل سيمحوها الزمن وتتلاشى الهوية؟ كل هذه الأسئلة اليوم برسم الأدب والمبدعين، فإذا كان المقاوم الفلسطيني الذي ألغى كل المسافات في مواجهة العدو، فعلى الأدب المقاوم الجدّي تحطيم كل حدود الكتابة النمطية والكتابة من مسافة صفر بعد رحلة طويلة من الانكفاء على الذات والشعور بالعدمية والخراب الثقافي، وانتهاء مبررات سؤال حدود الكتابة ليكون طوفان الأقصى رافعة لأدب مقاوم يُكتب بشكل مختلف عن تقاليد الأدب المقاوم الذي ساد في فترة من الفترات من خلال لغة جديدة أكثر حداثة وتراثية في الوقت ذاته، لذلك أقول للكتّاب لا تجعلوا الكتابة تصاب باليباس والنمطية ليبجّلكم التاريخ، فزمن طوفان الأقصى لن يكون آخر فصوله ما دام الاحتلال قائماً، ولكن ما هو مؤكد المقولة السائدة عن أن العالم قبل طوفان الأقصى سيختلف عن العالم بعده، ليس في السياسة والاجتماع فحسب بل وفي التحولات الأدبية القادمة التي تستلزم من النقاد مواكبتها ورصدها ومعاينتها في تجربة عالمية لا تتكرّر كثيراً، وقد نقلت القضية الفلسطينية إلى أعماق الوعي ومزجت عناصر الفن مزجاً شديداً توسّعت فيه اللغة والخيال والرواية إلى بُعد كونيّ يتأسس على قضية شاغلة ذات أبعاد روحية وإنسانية وثقافية وتاريخية وسياسية”.