مقترحات للحد من هجرة الأطباء في ظل مجانية الخدمات الطبية
الدكتور بهاء عيسى ليلا
إذا ما حاولنا توصيف مشكلة “الخدمات الصحية المجانية مقابل الحد من هجرة الأطباء”، والتي أشار إليها الرفيق الأمين العام للحزب، السيد الرئيس بشار الأسد، في افتتاح الدور التشريعي الرابع لمجلس الشعب، والوقوف على الواقع الحالي للخدمات الصحية الحكومية، خاصة بعد القرار الأخير لحكومة تسيير الأعمال الحالية، بشأن رفع رسوم الخدمات الطبية داخل القطاع الصحي الحكومي، يتبين لنا من خلال دراسة القطاع الخدمي الصحي، وبعد إجراء بعض الزيارات الميدانية والمقابلات مع بعض المعنيين في المشافي العامة في محافظة طرطوس، أن المرضى يدفعون رسوم دخول إلى العيادات الخارجية ما قيمته 11000 ل. س كمرحلة مبدئية للدخول، وبعد الدخول قد يِطلب من المريض صورة أشعة والعودة للصندوق لدفع رسوم أخرى (11.000 ل. س)، ثم قد يطلب منه تحاليل مخبرية معينة تستوجب كذلك دفع رسوم أخرى لا تقل عن 11.000ل. س، وبمرحلة لاحقة قد تكون نتيجة هذه التحاليل تتطلب منه الإقامة داخل المشفى لتلقي العلاج المناسب؛ وهنا تأتي المشكلة الكبرى وهي أن يدفع المريض مبلغ 50.000 ل. س عن كل يوم إقامة داخل المشفى الحكومي.
ولا يتوقف الأمر هنا، بل يطلب من المريض شراء المستلزمات الطبية والأدوية اللازمة لعلاجه – ونحن نعلم كم هي أسعار الأدوية حالياً وكم هي مكلفة – وهذا ليس كل التكاليف بل يوجد تكاليف “مخفية” أخرى يدفعها المريض، ولا يمكن حصرها، على مستوى كل قسم وكل شعبة داخل المشفى الحكومي، فعلى سبيل المثال عمليات الشبكة القلبية ضمن قسم القلبية وصلت تكلفتها ما يقارب 7 ملايين ل. س يجب أن يدفعها المريض.
بعد توصيف جانب من الواقع الصحي في المشافي الحكومية، لا بد من تحديد المشكلة الرئيسية الأولى، والتي تكمن في نوعية المرضى الذين يقصدون المشافي الحكومية للعلاج، وأغلبيتهم من الفقراء وذوي الدخل المحدود، ليبرز بالتالي السؤل المهم: كيف سيدفع الفقراء وذوي الدخل المحدود تكاليف العلاج في المشافي الحكومية التي كانوا يعتبرونها الملجأ الوحيد لهم في ظل الارتفاع الجامح للمحاكمات الطبية الخاصة والمشافي الخاصة؟ وماذا سيحل بمرضى الأمراض المزمنة والمستعصية؟
أما المشكلة الثانية، فتكمن في الحد من هجرة الأطباء في ظل مجانية الخدمات الطبية.. وهنا التساؤل الذي يطرح نفسه: هل الخدمة الصحية الحكومية المأجورة قد حققت هدفها الأساسي في الحد من هجرة الأطباء من المشافي العامة؟
بعد إجراء البحث اللازم خلال الفترة السابقة، والاطلاع عن كثب، تبين أن هذا القرار لم يحقق هدفه في الوقت الحالي، إذ لا تزال هيبة الطبيب والنظر إليه كقدوة ومنقذ ضائعة ومفقودة، ولا يزال أطباؤنا حتى اللحظة يبحثون عن فرص عمل خارج الوطن وخارج المؤسسات الحكومية.
بالمقابل، اعتماد الأطباء بشكل كلي ليس على رواتبهم المتدنية من المشافي الحكومية وإنما على عياداتهم الخاصة، والعمل ضمن المشافي الخاصة، والبعض منهم قد حقق ثروات طائلة من هذا العمل، ولكن مقارنة بالعدد الإجمالي داخل محافظة طرطوس فهم قلة قليلة. وهنا، لا بد من اقتراح بعض الحلول الإسعافية التي نأمل أن تساهم في رفع المستوى المعيشي لكل من المرضى والأطباء على السواء والتخفيف من المشكلتين السابقتين في مجال القطاع الصحي على مستوى سورية:
1- فرض لصاقة طبية بنسبة لا تتجاوز 10% من القيمة الإجمالية لأجر العمليات في المشافي الخاصة، بحيث تعود إيراداتها بشكل مباشر لدعم المشافي الحكومية، بدلاً من الرسوم التي فرضتها حكومة تسيير الأعمال الحالية على مرضى المشافي العامة، تمهيداً لرفع المستوى المعيشي للطاقم الإداري والطبي في المشافي الحكومية، وللحد قد الإمكان من هجرة الأطباء، ورفع جودة الخدمات الطبية من خلال تأمين المستلزمات الطبية والأدوية بشكل كامل بحيث تقدم بشكل مجاني للمرضى.
2- تخفيف الضغط على المشافي الحكومية الرئيسية داخل المدن من خلال دعم الخدمات الصحية في الأرياف، فمثلاً من خلال الزيارات الميدانية في ريف طرطوس البعيد، تبين وجود مشفى عام (مشفى خزنى حسين العام) مجهز تجهيزاً كاملاً، ولكنه يعمل كمستوصف فقط، إذ يبدأ عمله من الثامنة صباحاً وحتى الواحدة ظهراً فقط. كما يحتوي على جميع الأجهزة الطبية التي يحتاجها المريض ومجهز بصيدلية توزع الأدوية بشكل مجاني للمرضى في تلك المنطقة. والمطلوب دعم مشافي الأرياف بالكوادر الإدارية والطبية اللازمة بحيث تقدم خدماتها على مدار 24 ساعة، كما في مشفى الباسل والمشافي العامة الأخرى داخل مدينة طرطوس، بغية تخفيف الضغط على المشافي العامة داخل المدن، تمهيداً لرفع جودة الخدمات الصحية الحكومية.
3- الربط الضريبي للعيادات الطبية الخاصة كما في المشافي الخاصة، وتحويل هذه الإيرادات بشكل مباشر لدعم المشافي الحكومية العامة، بغية تقديم طبابة مجانية للمرضى، أسوة برفع محاكمات الأطباء ضمن هذه العيادات. وذلك من خلال تطبيق برنامج العيادة الالكترونية لتلتزم به كل العيادات الخاصة تمهيداً للربط الضريبي، وأن يكون عند مستوى دخل معين ومدروس تحدده وزارة الصحة.
4- دعم المشاريع الطبية الصغيرة والمتوسطة الالكترونية وبرامج الصحة الالكترونية e-heaith، والتي تساهم بشكل فعال في تخفيض التكاليف الطبية والبيئية على المريض وعلى المشفى الحكومي، وتساهم في دعم الأرياف البعيدة من خلال تفعيل التشخيص الطبي الالكتروني (عن بعد).
5- العمل على أتمتة العمليات الطبية في المشافي العامة في ظل التحول الرقمي الحالي للخدمات الحكومية السورية، فالبيانات في المشافي تصنف من فئة big-data، ويساعد هذا الكم الهائل من البيانات في توفير معلومات ملائمة ومفيدة لاتخاذ قرارات طبية وبيئية وإدارية صحيحة ومبنية على أسس علمية تمهيداً لرفع الأداء المالي والطبي للمشافي العامة وتخفيض جزء من التكاليف الضخمة التي تتكلفها هذه المشافي في البيئة الورقية.
رئيس قسم المحاسبة –كلية الاقتصاد- جامعة طرطوس