حرب أوكرانيا والمشهد السياسي العالمي
ريا خوري
أسهمت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا بحدوث تغييرات جيوسياسية عميقة جداً أفرزت رؤية واضحة وشاملة للمشهد السياسي العالمي، فتلك العملية جعلت العالم يصطفّ ضمن ثلاثة اتجاهات، الأول دول تحالفت مع الغرب الأمريكي- الأوروبي الذي كشّر عن أنيابه، والاتجاه الثاني دول جمحت نحو الاتجاه الآخر المعادي لكل ما هو غربي، وهناك اتجاه ثالث رفض الرضوخ والانصياع لأيٍّ من الاتجاهين، وأراد أن يكون له كيانه وشخصيته المستقلة، وكمثال على هذا الاتجاه جمهورية الصين الشعبية، التي من الصعب وضعها في إطار محدّد. فقد حافظت الصين على علاقاتها بالدول الأوروبية والغرب عموماً بعد انتقادات واسعة لموقفها من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وقال الرئيس شي جين بنغ، في اجتماع افتراضي مع المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إن الدول الثلاث يجب أن تدعم بشكلٍ مشترك محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا، وأن بكين تدعو إلى (أقصى درجات ضبط النفس) في أوكرانيا، وأنها تشعر بالألم لرؤية ألسنة اللهب تتصاعد في أوروبا، وهو ما اعتُبر أقوى تصريح للرئيس الصيني منذ بدء الأزمة.
تسعى الصين إلى أن تكون قطباً عالمياً ولها دورها الدولي الخاص والمميّز، وتعرف كيف تتحكم بخيوط المشهد من دون التورط مع هذا الطرف أو ذاك، فمنذ بدء الأزمة الأوكرانية، ما قبل اندلاع الحرب في 24 شباط 2022 م، بدا أن موقف الصين مُعقد، فقد صرّح وزير الخارجية الصينية وانغ يي، بضرورة العودة إلى (الحوار) وضرورة عقد (محادثات أمن وأمان وسلام) لإنهاء الأزمة، كما حرص المسؤولون الصينيون على تجنُّب وصف الحرب بــ(الغزو) الروسي، وتمسّكوا برفض العقوبات الغربية الواسعة الجائرة على روسيا، واعترفوا بأنَّ المطالب الأمنية الروسية الإستراتيجية الخاصة بالمنظومة الأمنية في القارة الأوروبية مشروعة، كما عملوا على الحفاظ على الشراكة الإستراتيجية مع روسيا، وفي الوقت نفسه عدم ترك العلاقات مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية تتدهور بشكل كامل، وذلك لأنَّ الموقف الصيني مرتكز على محدّدات الشراكة الإستراتيجية المتعاظمة مع روسيا التي ظهرت في بيان 4 شباط المشترك بين الزعيمين شي جين بنغ وفلاديمير بوتين، وأولوية التحالف الاستراتيجي مع روسيا لمواجهة ضغوط الولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة إعادة تشكيل النظام العالمي.
لم تمانع القيادة الصينية الخروج قليلاً عن تقاليد السياسة الخارجية الصينية عبر تقديم الدعم الاستراتيجي لجمهورية روسيا فيما يتصل بمخاوفها الأمنية في أوروبا، وقد ارتكز الموقف الصيني إزاء الأزمة الأوكرانية على رغبة الرئيس الصيني في توطيد الشراكة الصاعدة مع روسيا لخلق توازن استراتيجي يمكن من خلاله ردع طموحات الغرب الأمريكي- الأوروبي.
إن ما يحكم علاقة الصين بروسيا وبقية دول العالم، هو قضيتان: الأولى مصالحها الاقتصادية، والثانية الاستقلالية في اتخاذ القرار، وروسيا تدرك حقيقة موقف الصين، لكن حاجة كل منهما إلى الأخرى مثَّل دفعة كبيرة وقوية للعلاقات بين الجانبين بشكل متسارع لاستثمار كلٌّ من توجّهه ومنظوره. فمن جهتها روسيا ترى أن تقاربها مع الصين يكسر حصار الغرب الأمريكي- الأوروبي عليها اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، ويخلق توازناً في ظل تجنّد أعدائها التقليديين، وهو ما اضطرها إلى انفتاح اقتصادي كبير وواسع على الصين العام الماضي لتصبح خلال وقتٍ وجيز سادس أكبر شريك تجاري للصين، بتجارة بلغت نحو مئتين وأربعين مليار دولار أمريكي، أي بزيادة 64% على عام 2021، فضلاً عن ضخ روسيا للغاز الطبيعي بلا قيود للعملاق الآسيوي.
ومن جهة ثانية، وضع المنظِّر الاستراتيجي الصيني “سان تزو” خطة محكمة تسير عليها الصين في تعاملها مع العديد من دول العالم، وهو السير على خط رفيع في التعامل مع أطراف الحرب، صاحب نظرية (إنَّ الفوز دون قتال هو الفن النهائي للحرب)، حيث لم تترك الصين حليفتها روسيا لقمة سائغة لأعدائها، وقدّمت الدعم الهائل غير المباشر لها، توازياً مع الحفاظ على مسافة معينة مع الغرب الأمريكي- الأوروبي.