مُجْريات
عبد الكريم النّاعم
قال صديقه: “بظنّي أنّنا كثيراً ما نعود في الحوار إلى بعض ما سبق لنا أن قلناه، وربّما شعرتُ بشيء من الحرَج الداخلي بسبب ذلك”.
أجابه: “تلك سمة من سمات تدفّق المُجريات، بعضها يحمل مفردات سابقة، وبعضها يُضيف إليه، وهو في تدفّقه يحمل جينات المستقبل الذي يتشكّل، وتلك مسائل لا يمكن الفصل بينها، لأنّ هذه هي هويّتها الحياتيّة، والذي نسمّيه جديداً يحمل العديد من جينات ما سبق وما سيأتي”.
قاطعه: “أعود إلى مقولة ما جرى ويجري في العالم، وأعني المقاطع الزمنيّة التي نعيشها، وهذا ما يهمّنا أكثر من غيره، لما لنتائجه من تأثيرات في حياتنا وحياة أجيالنا، وأرى أنّ ما يحدث إمّا أنّه ناتج عن الظلم والفوضى، أو عن تخطيط لقوّة، أو قوى ما، والفوضى لا تُنتج غير الفوضى، بينما نرى مجتمعات العالم المتقدّم، كما يسمّونه، منظّمة تنظيماً مُدهشاً يكاد يكون صورة لتنظيم الآلات المّنتِجة، ولستُ أنفي عن أهل ذلك العالم أنّ فيهم مَن يحمل حسّاً إنسانياً عالياً، يشهد بذلك تلك المظاهرات التي عمّت جامعاته، وشوارع بعض عواصمه احتجاجاً على الإبادة الجارية في غزّة، وهذا يؤكّد أنّ هذه الجماهير كانت مُضلَّلة فيما شُحِنتْ به من حقّ إسرائيلي مزعوم في فلسطين، وكان تقصير معظم العواصم العربيّة، عبر تاريخ الصراع العربي الصهيوني، فاضحاً ومُخجِلاً، نقول هذا غير ناسين أنّ بعض هذه العواصم متصالح مع الإدارة الأمريكيّة، فالإنسان في تلك المجتمعات الغربية، كما عرفنا عنه، يستيقظ صباحاً في ساعة محدَّدة، ويذهب إلى ركوب المترو، أو وسائط النّقل في ساعة محدَّدة، يُداوم ثماني ساعات متواصلة، يعود إلى بيته ليستجمّ، ويرقد في ساعة غالباً ما تكون محدّدة، لأنّه سيستيقظ باكراً للذهاب للعمل، ويستمتع بيومي العطلة الأسبوعيّة ليعبّ من وسائل التسلية والمُتع ما يؤهّله لاستقبال الأسبوع التالي، وقد يبدو هذا غير مُخطَّط له، لكنّ هذا لا يمنع من التفكير أنّ ثمّة مَن يرسم هذا المسار، ليستغلّه في تعميق أهداف قد لا تبدو واضحة للجميع، ولستُ أزعم أنّ بقيّة أجزاء العالَم ولاسيّما في بلداننا العربيّة هي أفضل، بل أنا أُدرك حجم التردّي الذي نعانيه على مستوى الأخلاق، والتنظيم، والرؤى، وربّما كانت بلادنا بحاجة لمُعجزة لتنتشلها مما هي فيه، فهل لك رأي آخر؟”.
أجابه: “أنا مع مُعظم هذه الرؤى التي مررتَ عليها، وأرى أنّ ما وصلنا إليه في بلدان العالم التّائقة شعوبه للنموّ، لم يكن ما وصلنا إليه ناتج تقصير “وطني” من الجهات المعنيّة فحسب، ولا أدافع عنها، ولا أعفيها من التقصير، وتغليب ما ليس ضروريّاً على ما هو ضروري، في معظم مساحات الحياة، فهذه البلدان لم تُتْرَك لبناء ذاتها بناءً سليماً على جميع المستويات، بل كانت القوى الغربيّة المتوحّشة لها بالمرصاد، ولم ننس بعد ما جرى من تدمير العراق وسوريّة، ولعلّ من أبرز ما لجأت إليه هذه القوى الشيطانية تفكيك العائلة في بلداننا، بما كانت تحمله من قيم إيجابيّة كالتواصل، والمؤازرة، واللّحمة الحيويّة، أنظر ما أوصلونا إليه خلال النصف القرن الأخير، لم يعدْ الجار يهتمّ بجاره، وبدأت العائلة، وتدنّي مستوى التعليم، وترافق ذلك مع إيقاظ النّعرات التي أخجل من ذكرها، وتسيّد الأنا، والبحث عن الكسب بأي طريق كان، وأنت تعلم أنّ سقوط القيم الأخلاقيّة هو بداية الانهيار، وحجم الانهيارات الأخلاقية المخفيّ أكبر بكثير ممّا تراه الأعين، وعدوّك لا يترك فرصة حتى لالتقاط النفَس، وهذا يحتاج إلى جهود خارقة للخروج ممّا نحن فيه، ولا أقول إنّه غير ممكن..”.
aaalnaem@gmail.com