Uncategorizedثقافةصحيفة البعث

محمود حامد الغيمة التي أمطرت شعراً

أمينة عباس

رحل الشاعر الفلسطيني محمود حامد وهو يردّد: “لستُ أنا من غاب عن الإعلام بل هو الذي غيّب الكثيرين من كبار الشعراء”، ويتفق الجميع على أنه شاعر كبير لم يأخذ حقه من الرعاية والاهتمام، وقد صنَّفه النقاد في طليعة شعراء المقاومة، إذ رهن شعره للقضية الفلسطينية، يقول الشاعر جمال المصري: “محمود حامد غيمة أمطرت شعراً، فهو شاعر يعرف كيف يدخل إلى الكائن الحيوي الذي اسمه لغة، ويستخرج مكامن الجمال من داخلها، ويستطيع بكل موهبة الشاعر الحقيقي وبشبكة وجدانية التقاط هذه المشاهد القائمة على الدرامية والصراع التاريخي المأساوي في فلسطين”، أما هو فكان يقول: “عندما أخوض في موضوعة فلسطين إنما أخوض فيه كواحد من أبنائها الذين مشوا على عهد الأجداد والآباء في أن فلسطين أرض عربية الجذور والهوى والتراب منذ الأزل.. لقد عشتُ النكبة لحظة بلحظة، وسأظل أذكرها إلى الأبد، لأنها منحتني فيما بعد الطاقة الشعرية الهائلة، ففلسطين هي التي اختارت الشعر لي وللشعراء الفلسطينيين حين غذّتهم بدمها وكيانها، فخرجوا من رحمها ليكونوا شعراء أسّسوا للقصيدة المقاومة الحديثة وللقضية الإنسانية، بدليل أن أصواتاً عالمية في إسبانيا وتشيلي وأوروغواي اتخذوا من الشعر الفلسطيني قدوة وترجموه إلى لغاتهم بسبب ما زرعته القضية الفلسطينية في الضمير العالمي على مستوى الشعوب والأفكار، فتركت بصمتها في منظومة الشعر الحديث بشكلٍ يثبت أن صوت الشاعر الفلسطيني استطاع أن يكون شعراً ليس وطنياً ولا مقاوماً فحسب بل وإنسانياً أيضاً”.
كان محمود حامد يؤمن بأن الشعر سيبقى أفضل ناطق بلسان الإنسان لأنه “موضوع قائم منذ الأزل في الوجدان الإنساني، وهو يبدأ مع الإنسان بالفطرة قدراً قائماً كأي مهنة ترتبط بصاحبها هواية ثم احترافاً مع كثرة القراءة، ثم تصبح هوساً لازمني منذ المرحلة الإعدادية وظلّ يصاحبني كهوَسي بفلسطين ملهمتي.. لقد أسست القضية الفلسطينية البنية الشعرية ليس لي فقط وكان لا بدّ من تغذية التجربة بأن أقرأ كثيراً لأطّلع على الحركات الثورية في العالم، والشعر بجميع أصنافه مخزون يتحول إلى رافد أساس للشاعر، حيث يفجر ثورته الشعرية، لذلك ترك ديواني الأول “موت على ضفاف المطر” تأثيراً كبيراً عليّ، فقد كان الخطوة الأولى والطلقة الأولى نحو العودة إلى فلسطين، وبقي هو ذاكرتي وصوتي ونبضي”.
وبتوصيفه لواقع الشعر والثقافة في سورية كان يقول: “في فترة الستينيات كان الوضع الشعري بخير بما تركه من ذخيرة في العقول والأفكار للأجيال اللاحقة، وأما بعد الستينيات فقد تناثر الصوت الشعري ولم تستطع الأجيال اللاحقة أن تبني صرحاً شعرياً ولم يتبنَّ الإعلام بعض الأصوات الشعرية المعاصرة، حيث انحرف انحرافاً كلياً عن الشعر السياسي والقومي وعاش مع الأسماء التي ليست لها علاقة بالشعر والتي تستنسخ بعضها بكتابات عابرة لا تؤسس لحركة شعرية معاصرة، لذلك لا نستطيع تأريخ لحركة شعرية حديثة بعد فترة الستينيات، ويبقى الزمن هو من سيعيد ترتيب الأصوات الحقيقية وإعادتها إلى الحياة، مع إيماني بأن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم مدمرة للساحة الشعرية، حيث اختلط الحابل بالنابل، وأصبحت مئات الأصوات العابرة تجد من يصفق لها بالآلاف، كما لم يعد الشعر ديوان العرب لأن الانتقال من عمود الشعر العربي وشعر التفعيلة إلى صوت نثري، القليل منه جيد والكثير منه رديء وغث هو الذي يسيطر على الساحة الشعرية ويجد له مشجعين في ظل شبه غياب للأصوات الحقيقية أمام هذا البحر المتلاطم من القول اللامعقول في الشعر، مع رفضي لربط الحداثة بالشكل، فما يزال المتنبي مبدعاً رائعاً، في حين أن غالبية ما يُكتب اليوم كلام عابر لن يعمر مع الأيام، وقلة من الأصوات سيذكرها التاريخ”.
تركت الحرب على سورية في محمود حامد أسوأ انطباعات في نفسه: “لم أستطع الكتابة خلالها لأنني لا أريد أن أؤرخ لقصيدة تناسب الحرب ولا تأتي بشيء جديد، فأنا أحفر قصيدتي في وجداني حتى يأتي زمنها فتنفجر في داخلي، إن ما حل بسورية وفلسطين على صعيد المعاناة والألم واحد ومستمر، لكن ما هو مؤكد أن سورية هي المنتصرة في المستقبل فيما يخصها ويخصّ قضيتها الفلسطينية”.
ومن ضمن المحطات المهمة في مسيرة محمود حامد أنه التقى في السبعينيات بأم كلثوم واتفقا على أن تغنّي له قصيدة “طائر الشوق” التي جعلته يلتقيها على مدار ثلاثة أيّام مع الشاعر أحمد رامي الذي كتب في حاشية القصيدة: “أجمل سكّر تذوقّته شفتاي في حياتي بعد هذا العمر واطلاعي على المبدَع الشعري كلها”، لكن الأمر لم يتم، إذ توفيت أم كلثوم ولم يعطِ قصيدته لأحد: “لن أعطيها لأحد، فهذا عهد بيني وبينها”.
وحين قرأ الفنان البحريني خالد الشيخ قصيدة محمود حامد “أروع العشق ما تلاه اعتذار” وهي ضمن مجموعة صادرة عن اتحاد الكتّاب العرب عام 1986 حاول التواصل معه، والتقيا في العام 2006 وأنجزا معاً أوبريتاً عنوانها “الطريق إلى يافا- إليك أعود”، كما عمل خلال سنوات طويلة على جمع الشعر الفلسطيني وشتاته في ثلاثة مجلّدات شعرية: “الشعراء الفلسطينيون، ذاكرة الشعر، ذاكرة الوطن” وخصص لكل شاعر دراسة منهجية شاملة، وأعطى لكل شاعر حقه، كبيراً كان أم صغيراً في التجربة قائلاً: “عددت أي شاعر فلسطيني شاعراً مقاوماً يستحق الكتابة عنه لأنه استشهد في سبيل القضية شعراً كما يستشهد المقاوم في خندقه، وكثير منهم توفي نتيجة ثورته الشعرية، وبقي شعره مخلداً أبد الدهر”.

يُذكر أن الشاعر محمود حامد من مواليد مدينة صفد في فلسطين سنة 1941، وحاصل على الإجازة في الآداب من قسم اللغة العربية جامعة دمشق، وعمل مدرساً بثانوياتها، ثم عضواً في البعثة التعليمية السورية للجزائر، واشتغل لسنوات طويلة في الصحافة والإعلام، وهو عضو في اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين واتحاد الكتّاب العرب، له إصدارات شعرية عدة، منها “موت على ضفاف المطر” و”أغان على شفاه الصنوبر” و”شهقة الأرجوان” و”الريح الزيتون” و”عابرون في الدمعة الأخيرة”، كما أصدر مجموعات شعرية عدّة للأطفال منها “لمن تغنّي البلابل”، و”أغاني العصافير”، ونال العديد من الجوائز، منها الجائزة الأولى في مهرجان الشعر بدمشق سنة 1965 وفي مهرجان عنابة في الجزائر 1968 وجائزة القدس في بيروت عام .2010