قلوب الشوق وقلوب الشوك
غالية خوجة
تعبر حياتنا بأنفاق وعثرات، وعسر ويسر وعبَرات، وعواصف ونسمات وابتسامات، ونعبر معها بين الأرض وخلجات أعماقنا وتحولات الزمان بمجرياته المنطقية والمجنونة، الظالمة والعادلة، المعتمة والمضيئة، وكلٌّ منا يحاول أن يرتق اللحظة، ويليّنها لكي لا تصبح أشدّ قسوة من الحجارة، وإن كانت هناك قلوب أشدّ قسوة من الحجارة، فلا تنبض بالمحبة والرحمة، ولا تعرف إلى ذلك سبيلاً، حتى لو كانت من فئة الأقارب من الدرجة الأولى، أو الثانية، وتراها لا تألف الوفاء شوقاً، وتزداد شوكاً، وتنزّ كراهية وانتقاماً وحقداً، وتلسع بفطرتها كلَّ جَمال، لأنها لا ترى في الجَمال إلاّ قبحاً.
وهذا النموذج البشري يعكس قبحه الداخلي مهما حاول وضع أقنعة جميلة ومبهجة ومبهرجة على وجهه، ومهما أضاف إليها من سلوك يتمظهر بالشفافية رئاء الناس، أو أضاف “ماكياجاً” افتراضياً على وسائله الاجتماعية، فإنه يُبطن عكس ما يخفي من الوحشية، ويحسب أنه على حق وأنه الوحيد الذي يُحسن صُنعاً.
وضمن هذه الازدحامات تنمو القلوب الشوكية، وتترعرع سعيدة جداً بما تفعله، غير متوقعة أن هذا الشوك وكرٌ من الأفاعي والعقارب النهمة التي تتغذّى على نبضاتها لتوصلها إلى اللحظة السوداء الأخيرة.
بينما نرى قلوب الشوق الرهيفة كأفئدة الطير، تحنو حتى على الحجارة، وتحاول انتزاع العتمة من تلك القلوب الشوكية، لعلها تبصر ذات لحظة، وتظل ساعية إلى الخير لتمنح الحياة إشراقاتها، وتعيد للأزمنة إبراقاتها، وتنشر الطمأنينة والسعادة في بيئتها ومحيطها، فتترعرع الحكمة، وترفرف السكينة، وتسترجع النغمات ألوانها، فترى الحمامات باسطة أجنحتها، والفصولَ تبتسم، حتى الحجارة تبتسم كلما مرت قلوب الشوق قربها أو في ذاكرتها.
تزدحم حياتنا بالقلوب التي لا تكشف عن مكنوناتها دفعة واحدة، لكن، بإمكاننا الاهتداء بعلامات ترشدنا إلى الخفايا مع مرور الزمن، وتعتّق التجربة، غير متناسين ما توارثناه من حكمة تراثية مفيدة، تقرع أبواب غفلتنا كلما اقتربت قلوبنا من تلك الأدغال الشائكة، فنتجنّب الكثير من الجراح والأنزفة، ونبتعد، نبتعد إلى أن نمضي إلى قلوب بصم عليها الماء، فاتضحت شفافيتها وعكست أشعة الشمس والقمر وأعماق المحيطات والأنهار، واستقبلت حساسية الكواكب والنجوم، وتشكّلتْ مجرات لا تراها إلاّ القلوب الشبيهة المضاءة بالمحبة والرحمة.
عزيزي القارئ، امسك قلبك، عزيزتي القارئة، امسكي قلبك، ولينظر كلٌّ منا إلى قلبه، وليجعله شفيفاً كالماء، وليحلق في الفضاء وهو واثق بأنه سيتجاوز مطبّات الحياة، ويزرع في التربة النبضات، ليحصد أعماله الخيّرات، فالزمن مثل الحياة، لا ينسى الجَمال الذي نصنعه، بل ينثره في قلوب الكائنات، ولا يمضي حتى وإن مضينا.
لذلك، احذر أن تيأس إذا كان قلبك من شوق لا من شوك، لأن حكمة الأقدار تنقذك مهما اصطدمت بالمطبّات، والحياة تنتخبك بعد مطباتها، لأنها تحب الأنقى روحياً وفكرياً ومسعى، لا الأقوى جسدياً ومادياً ومهوى.
وكنْ على بصيرة تنمو في روحك وقلبك، خيرٌ من جميرة تلسع فؤادك وقبرك، كنْ ذاك الإنسان المتفوق بالمحبة والعطاء والوفاء حتى لو أدمتْهُ أشواك القلوب، ومطبات الدروب، وردّد مع شمس التبريزي “عندما أخبرته أن قلبي من طين، سخر مني، لأن قلبه من حديد، قريباً، ستمطر، وسيزهر قلبي، ويصدأ قلبه”.
أخيراً، سلامة قلوبكم المزهرة بالمحبة والنقاء، والحياة المورقة بالعطاء، والمتآلفة مع الشوق والوفاء.