جرف المقابر.. خطة الكيان لإخفاء التراث والثقافة الفلسطينية
عناية ناصر
قامت قوات الكيان الإسرائيلي، وفقاً لما ذكرته شبكة “سي إن إن” بتدنيس ما لا يقلّ عن 16 مقبرة خلال هجومها البري على غزة، مما أدى إلى تدمير شواهد القبور، وقلب التربة، وفي بعض الحالات إخراج الجثث من تحت الأرض. كما دمّرت القوات الإسرائيلية مقبرة في خان يونس، جنوب قطاع غزة، حيث تصاعد القتال مؤخراً، ونقلت الجثث، وقالت قوات الكيان الإسرائيلية “إن هذه العملية هي جزء من البحث عن رفات الأسرى الذين احتجزتهم المقاومة الفلسطينية خلال عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول”.
لماذا يفعلون هذا؟
لم يقدّم جيش الكيان الإسرائيلي أي دليل على وجود أسرى أو ألغام أرضية أو أنفاق أو مخابئ أسلحة أو عناصر تابعين لحركة المقاومة الفلسطينية، وكان كلّ ذلك مجرد ذريعة لتدمير قطع الأراضي التي يدفن فيها الناس أحباءهم، ولكن لماذا؟ خاصة وأن هذه المقابر لا تشكّل أي تهديد للكيان الإسرائيلي.
قامت شبكة “سي إن إن” بمراجعة صور الأقمار الصناعية ومقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي التي تظهر تدمير المقابر، وتكشف الأدلة مجتمعة عن ممارسة منهجية، حيث تقدّمت القوات البرية الإسرائيلية عبر قطاع غزة.
ووفقاً لـ”سي إن إن” فإن التدمير المتعمّد للمواقع الدينية، مثل المقابر، ينتهك القانون الدولي، إلا في ظروف ضيقة تتعلق بتحويل هذا الموقع إلى هدف عسكري، وقال خبراء قانونيون لشبكة “سي إن إن” إن تصرفات “إسرائيل” تلك ترقى إلى جرائم حرب.
انزعج الصحفي الذي غطى هذه القصة من حفر بقايا أحبائه المتعفنة، وتركها لتتعفن في الشمس وسط كتل من التراب وشواهد القبور المكسورة في فعل قاسٍ وشرير إلى حدّ صادم، فمن غير المتوقع من البشر أن يتصرفوا بهذه الطريقة، بل أن يظهروا قدراً ضئيلاً من الاحترام للموتى، ولكن ما يُشاهد هنا العكس تماماً، حيث تُشاهد جثث تُعامل وكأنها قمامة يجب التخلص منها حتى يتسنى لمشروع الاستيطان أن يمضي قدماً.
وجاء في تقرير شبكة “سي إن إن” التلفزيوني: يشكل تدمير المقابر انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي بموجب نظام روما الأساسي، وهذا يعزّز مسألة أن “إسرائيل” تمارس إبادة جماعية، حيث أشارت جنوب أفريقيا إلى تدمير قوات الكيان الإسرائيلي للمقابر في غزة كدليل على الإبادة الجماعية في قضيتها أمام محكمة العدل الدولية.
إن تعريف الإبادة الجماعية يتجاوز القتل الجماعي لجماعة عرقية معينة، فهو يشير إلى “سياسة لتدمير مجموعة، كلياً أو جزئياً”. ويساعد تعريف “رافائيل ليمكين” للإبادة الجماعية في توضيح هذه النقطة: “إن الإبادة الجماعية لا تعني بالضرورة التدمير الفوري لأمة ما، بل إنها تهدف الإشارة إلى خطة منسقة من الإجراءات المختلفة التي تهدف إلى تدمير الأسس الأساسية لحياة الجماعات الوطنية، بهدف القضاء على الجماعات نفسها”.
ويجب أن يُعترف بجريمة الإبادة الجماعية في هذه المادة باعتبارها مؤامرة لإبادة جماعات وطنية أو دينية أو عرقية، ويمكن صياغة الجريمة وفقاً لتعريف “رافائيل ليمكين” للإبادة الجماعية على النحو التالي: “كلّ من يقوم، أثناء مشاركته في مؤامرة لتدمير جماعة وطنية أو عرقية أو دينية، بالهجوم على حياة أو حرية أو ممتلكات أعضاء هذه الجماعات يكون مذنباً بجريمة الإبادة الجماعية”.
واستناداً إلى ذلك هل يشير التدمير المتعمّد للمقابر الفلسطينية إلى “خطة منسقة تهدف إلى تدمير الأسس الأساسية للحياة.. بهدف إبادة المجموعات نفسها”؟، وهل يعتبر تدمير المقابر “اعتداء على حياة أو حرية أو ممتلكات” الفلسطينيين بقصد “تدمير المجموعة كلياً أو جزئياً؟”.
إن الإجابة على ذلك واضحة، حيث تتوافق تصرفات “إسرائيل” مع التعريف القانوني للإبادة الجماعية، ويدلل على ذلك مقتطف في مقال في “المجلس الأطلسي”: عندما تقوم القوات الإسرائيلية بهدم مقابر غزة، فإنها تهدم أيضاً التراث والثقافة الفلسطينية ومطالبات الفلسطينيين بالأرض.
وعلى نحو مماثل دنس المستوطنون البيض في الولايات المتحدة مقابر السكان الأصليين في حملة استمرت قروناً من التدمير الثقافي والتطهير العرقي.
إن معاملة الكيان الإسرائيلي للمقابر خارج الصراع المباشر جديرة بالملاحظة أيضاً، نظراً للمكانة الراسخة لتدنيس المقابر في تاريخ الإبادة الجماعية، حيث إن تدنيس المقابر والإبادة الجماعية مرتبطان ارتباطاً وثيقاً لدرجة أن “رافائيل ليمكين”، الذي صاغ مصطلح “الإبادة الجماعية”، أوصى بحظر هذه الممارسة في المسودات الأولى لاتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948.
إن تدنيس المقابر عمل همجي يقترب من الذهان الإجرامي، والاستنتاج الوحيد الذي يمكن التوصل إليه هو أن “إسرائيل” لا تكتفي بتدمير المدارس والمستشفيات والجامعات والمساجد والبنية الأساسية الحيوية، ولا تكتفي بقتل عشرات الآلاف من المدنيين الذين لا علاقة لهم بأي شكل من الأشكال بعملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول، بل إنها عازمة على محو أي أثر للشعب الذي احتلّ الأرض خلال الألفي عام الماضية من أجل اختلاق تاريخ ملفق يكون فيه اليهود الصهاينة في مركز السرد. وهذا مقتطف من مقال بعنوان “العنف ضد الموتى في فلسطين”، والذي طرح فيه جيسون دي ليون مفهوم العنف ضد الموتى على النحو التالي: “العنف الذي يتمّ تنفيذه وإنتاجه من خلال المعاملة الخاصة للجثث والتي يُنظر إليها على أنها مسيئة أو تدنيسية أو غير إنسانية من قبل الجاني أو الضحية ومجموعتها الثقافية أو كليهما في أرض القبور المفتوحة”.
لقد جعل الكيان الصهيوني من هدم المقابر ساحة رئيسية للعنف من أجل تسهيل التوسّع الاستعماري ومحو التاريخ، ولم يمنع الكيان الصهيوني دفن جثث الفلسطينيين فحسب، بل وصل الأمر إلى حدّ الاعتداء على الجثث المدفونة بالفعل، وانتهاك حرماتها من أجل المزيد من التوسع الإقليمي. وهذا يمثل أيضاً خطوة نحو المحو الكامل للتجربة الفلسطينية، حيث إن العديد من هذه القبور عمرها قرون، وتحمل في طياتها ليس فقط تاريخ الانتماء الفلسطيني، بل وتاريخ المقاومة من خلال وجود الشهداء الذين قاوموا عقوداً من الاحتلال. وبالتالي، فإن الكيان الصهيوني يحرم الفلسطينيين من القدرة على التصرف في أحد الأشكال القليلة المتبقية له لممارستها؛ أي آثار تراثهم وهويتهم وتاريخهم على الأرض.
إن كلّ ما ذكر يدلل على منطق الاستعمار الصهيوني الذي يستلزم السيطرة الكاملة على كل جانب من جوانب الفرد الفلسطيني، سواء في الحياة أو الموت، وفي كل أشكال الوجود، وإلى أن ممارسة العنف ضد الموتى هي تأكيد على أن الاستعمار الصهيوني يستمر لفترة طويلة بعد الموت، كما أن محو كل آثار الثقافة والتراث والهوية الفلسطينية هو بمثابة هجوم على شرعية التجربة الفلسطينية.
إن هذا الأمر يلخّص أن تدمير “إسرائيل” للمقابر الفلسطينية يشكل جزءاً أساسياً من حملة التطهير العرقي التي لا تهدف إلى إزالة السكان الأصليين جسدياً فحسب، بل إلى محو أي أثر لوجودهم التاريخي.