“القومية الثقافية العربية”… إعادة بناء تصور مفهوم الأمة العربية
د. سومر منير صالح
قارب مفكرو العرب المسألة القومية العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين انطلاقاً من واقع المجتمع والثقافة العربيتين في تلك الفترة، ولكنّ استمرارنا -راهناً- في بناء تصوراتٍ معاصرةٍ لتلك المسألة على ظروف وبيئة القرن العشرين، ستجعلنا أسرى تصوراتٍ ذهنيةٍ لا تتماشى مع الواقع المجتمعيّ والسياسيّ والثقافيّ المعاصر، وفي الوقت ذاته فإنّ تلك التصورات على غاية من الأهمية، لأنّها كانت معاصرةً حينها لنشوء الإشكاليات السياسية والثقافية العربية، ولا ينبغي تجاوزها كونها وصفّت جذر المشكلة، ولذلك المطلوب بناء تصوراتٍ معاصرةٍ لإشكالياتٍ متجددةٍ في الواقع العربي، باعتماد مقارباتٍ جديدةٍ.
القومية مفهومٌ حديثٌ نسبياً تطور في القرون الثلاثة الماضية، مقارنةً بمفهوم الأمة القديم تاريخياً، والقومية مفهومٌ معقدٌ يتداخل في تكوينه العرق واللغة والدين والثقافة والمواطنة..، كما أنه متعدد الاستخدامات يتداخل معه مصطلحات الأمة والدولة القومية والوطنية، فمثلاً يمكن فهم القومية على أنّها فكرةٌ أو شعورٌ بالانتماء لجماعةٍ أثنيةٍ معينة، أو فعلٌ حركيٌّ سياسيٌّ باتجاه دولةٍ قوميةٍ، كما تم تحديدها أيضاً على أنّها عقيدةٌ أو أيديولوجيةٌ، أو تشكيلٌ خطابيٌّ.
غالباً ما تصنّف القومية وفق منهجين رئيسين: الأول تقليديٌّ يركّز على مسألة أصول الأمم، ويستند لافتراض أسبقية الغريزة الاجتماعية على العقلانية المدنية، وقوة التقاليد التاريخية على مصالح التمدن المعاصر، باعتبارهما أكثر رسوخاً نظراً لقدم تشكل فكرة الأمة، وكان انتشار هذا المنهج مرتبطٌ بالقومية الألمانية، أمّا المنهج الثاني فيركز على مدنية المجتمع، والإيمان العقلاني بالإنسانية المشتركة وهو الاتجاه الحداثي، وتستند مناهج الحداثة إلى أنّ القومية ظاهرةٌ حديثةٌ ولدت مع الثورة الصناعية مع بداية القرن الثامن عشر، وارتبط بالقومية الفرنسية، وبين هذين المنهجين مذهبٌ وسط، وهو المنهج الإثني الرمزي، من خلال الاعتراف بالأصول الحديثة للمجتمع الحديث، ولكن في الوقت نفسه التأكيد على أهمية الروابط الأولية ما قبل الحداثية للأمم. هنا يميل أغلب علماء الاجتماع المعاصرين إلى اعتبار الأمم والجماعات العرقية كياناتٍ أوليةٍ غير قابلة للتغيير.
كما أنّ التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية جعلت من الصعب على الجماعات العرقية الاحتفاظ بـ”جوهرها” الخالص الذي افترضه معظم أتباع النظرية (الطبيعية)، والحقيقة الموضوعية أنّ فكرة الشخصية الفريدة للأمة استناداً إلى العرق هو الذي زرع البذرة التي أدت إلى نمو الأنظمة الشمولية في القرن العشرين في أوروبا، وعلى أهمية ترابط مفهوم الأمة والقومية وما بينهما مع تمايز، فمعظم المناهج في التعامل مع القومية ركّزت بشكلٍ مكثفٍ على مسألة “متى نشأت الأمة؟، وما هي سمات هذه الأمة؟”، وأهملت هذه المناهج التحليلات والآليات حول كيفية استدامة هذه الأمة والحفاظ عليها!.
استناداً إلى ما تقدم، يوجد لدينا معنيان واضحان على الأقل لمفهوم القومية، وهما: القومية- الأمة، والقومية- المجتمع.
إن قومية الأمة مستندة إلى وجود هويةٍ سابقةٍ لمجموعةٍ ثقافيةٍ متجانسةٍ متشابهةٍ تسعى نحو دولةٍ قومية.
أما القومية- المجتمع، فتستند إلى وجود دولةٍ لمجتمعٍ متعددٍ ثقافياً، وتعمل على بناء هويةٍ سياسيةٍ جامعةٍ له..
بالتحليل والمقارنة مع القومية العربية فإنها تبدو أقرب إلى المفهوم الأول (القومية –الأمة)، في تصورها لذاتها، وبهدف إبعادها عن القومية (العرقية) مع ذروة تمدد الفكر القوميّ (العرقي) في النصف الأول من القرن العشرين، والتي كانت سبباً لدمار أوروبا، وتسببت في الحرب العالمية الثانية، تم تبني القومية العربية الحضارية (العروبة)، وبناءً عليه تم إعادة تعريف مفهوم من هو العربيّ؟ ليغدو أكثر شمولاً، وعلى أهمية ذلك، تم إغفال حقيقتين أثرتا في سياق الحركة القومية العربية: الأولى أنّ مفهوم الأمة في التاريخ العربي المشترك غالباً ما يستخدم باعتباره مفهوماً متجاوزاً مكتملاً في فترة، صالحاً لكلّ الفترات اللاحقة، عابراً على القومية، مع اختلافٍ كبيرٍ بين المفكرين العرب على تعريفه، وهذا بحدّ ذاته موضوعٌ كبيرٌ ومهمٌ وشائكٌ.
والحقيقة الثانية هيّ القفز فوق فكرة المجتمع الحديث متعدد الثقافات، ودمجه بفكرة الأمة -غير الشوفينية- حيث غاب الفرق بين المجتمع العربي والأمة العربية، واستخدم المصطلحان في سياقٍ واحد، والحقيقة أنّ إهمال الفروق بين المجتمع والأمة تزامن مع رسوخ فكرة الدولة الوطنية عبر عقود في المجتمعات العربية، ما أضعف فكرة القومية كاتجاهٍ سياسيّ.
وفي سبيل إعادة بناء تصوراتٍ معاصرةٍ قابلةٍ للتطبيق بما يخص القومية العربية وجعله اتجاهاً عاماً في المجتمع العربي الأوسع شرائحياً من مفهوم الأمة، دون أن يلغيه، بل يعززه، ويحافظ عليه، وبذات الوقت يجيب على التساؤل الأبرز: ماهي آليات استدامة الأمة – المجتمع؟، وكيف نحافظ عليها؟
يبرز لدينا اتجاه القومية الثقافية، وهو أقرب إلى المنهج الثالث سابق الذكر (الاثنو- رمزي)، إذ تشير القومية الثقافية عموما إلى الأفكار والممارسات التي تتعلق بالإحياء المقصود لثقافة مجتمعٍ قوميّ، بهدف استدامته، كما تبحث في إيجاد أرضيةٍ مشتركةٍ بين أولئك الذين ينظرون إلى القومية باعتبارها تعبيرا هيردرائيا عن روحٍ جماعيةٍ فطريةٍ تمتد إلى “زمنٍ بعيد”، وأولئك الذين ينظرون إليها باعتبارها أيديولوجيةً حديثةً استحضرتها الليبرالية التقليدية بهدف إلغاء مفهوم (الأصل) في نشوء الأمم في سبيل الترويج للمجتمعات العابرة للوطنية، وبهذا المعنى يتضح الفرق بالغ المعنى مع القومية السياسية، التي غالباً ما تركز على مسائل تحقيق الاستقلال السياسيّ والتكامل القوميّ، بينما تركز القومية الثقافية على تنمية الأمة ودمج المجتمع، وهنا لا تكون رؤية الأمة ككيانٍ سياسيٍّ فقط، بل مجتمعاً حضارياً، وعلى هذا النحو، تسعى القومية الثقافية إلى توفير رؤيةٍ لهوية الأمة وتاريخها ومصيرها، وهذه الهوية تحددها مشاعر ورموز من الثقافة المشتركة.
بالقياس مع الواقع العربيّ، وقبل البدء بالتحليل يجب تثبيت افتراضاتٍ أساسيةً للقومية الثقافية العربية فهيّ ليست اصطلاحاً زائداً في فائض قاموس مصطلحات العرب بدايةً، كما أنّها ليست حلاً وسطاً بين قوميةٍ كيانيةٍ سياسيةٍ غير متحققةٍ بعد، بل ربما صعبة التحقيق، وبين قوميةٍ احتوائيةٍ تتسع للجميع تفادياً من نزعاتٍ مضادةً، بل هيّ إعادة اعتبارٍ لمفهوم المجتمع العربيّ في علاقته مع مفهوم الأمة العربية، المستند إلى إحياء فكرة الثقافة العربية المشتركة.
فاستناداً إلى حيوية الثقافة العربية ومرونتها، فإنّ المجتمع العربيّ هو مفهومٌ غير نهائيّ في صيغته، وقابلٌ للتطور منفتحٌ على مكوناته، بعكس مفهوم الأمة الذي يحيل الوعي إلى مفهومٍ منجزٍ تاريخياً، مستقرٍ بنيوياً. وكون الثقافة العربية السائدة هيّ ثقافةٌ مشتركةٌ بين أبناء المجتمع، فهيّ مقبولةٌ للجميع، دون أن تلغ طابعها العربي، فالثقافة العربية المشتركة هيّ ثقافة المجتمع العربي، وهيّ تعددية لا أحادية، ولا تفرض هيمنة الأكثرية، والمجتمع العربيّ على تنوعه الحضاري قيمه مشتركةٌ، وتاريخه مشتركٌ، ومصيره واحدٌ، وتحدياته الثقافية واحدةٌ.
فالقومية الثقافية العربية باعتبارها (قومية- مجتمع)، لا تلغ ولا تحل مكان (القومية- الأمة)، بل تعززها في إطار التنوع ضمن المجتمع، وتغنيها، لأنّ الهوية القومية العربية هيّ هويةٌ ثقافيةٌ حضاريةٌ لكلّ مكونات المجتمع العربي، واللغة العربية هيّ الحامل الرمزي لتلك الهوية.
إذاً لا بدّ لإعادة إنتاج تصورٍ واقعيٍّ موضوعيٍّ لمفهوم الأمة العربية البدء بتحديد هوية هذه الأمة، وتحديدها بالهوية القومية الثقافية العربية، وبما يضمن تقليص مساحات وفجوات تطبيق الوحدة، أو السعي إليها كهدفٍ سياسيٍّ وإنسانيّ (للأمة-المجتمع) العربي، ويجعله متحققاً بمجرد تحقيق الأداة الثقافية، لأن الوحدة الثقافية تجعل من السياسية متحققةً دون الحاجة إلى الدخول بتفاصيل شكل النظم السياسية؛ لأنّ هدف الوحدة سياسياً هو الحفاظ على كينونة الذات العربية ثقافياً وتحصينها.