ثقافةصحيفة البعث

الأدب والفن والواقعية ثالثتهما

أمينة عباس

لا يمكن فصل الأدب والفن عن الواقع، فهما انعكاس له بطريقة أو بأخرى.. من هنا تنوّعت التيارات الأدبية في الأدب العالمي بشكل كبير، كذلك التيارات في الفن التشكيلي، وهي التي خضعت لتغييرات مستمرة وفقاً لحال المجتمع، وهذا بدا واضحاً في مساهمات المشاركين بالندوة التي عقدها، مؤخراً، النادي الأدبي الثقافي بإشراف الدكتور راتب سكر في المركز الثقافي العربي بـ”أبو رمانة” تحت عنوان “الواقعية في الأدب والفن”.
وانطلاقاً من مقولة الكاتبة الفرنسية مدام دوستال “تغيّر المجتمعات يصاحبه بالضرورة تغير في الأدب” يحدّثنا الدكتور وائل بركات: “كانت الرومانسية التي تمجّد الفرد والنفس وعذاباتها المذهبَ الأدبي الألمع في الآداب الأوربية حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكن مع صعود طبقة البروليتاريا كقوة فاعلة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية البورجوازية لم يعد مقبولاً الاكتفاء بالحديث عن الفرد والنفس أمام التناقضات المجتمعية الكثيرة ومعاناة الناس عامة، والطبقة العاملة بصورة خاصة، فظهرت الواقعية في ذلك الوقت استجابة لهذه التغيّرات التي طرأت فخَبَت الرومانسية الفردية ونهضت مكانها واقعية تهتمّ بالواقع والأشخاص الواقعيين وبالمجتمع وبقضاياه الناتجة عن صراع طبقي محتدم بين البورجوازية وطبقة البروليتاريا، وهدفت إلى تمثيل الواقع بأقصى درجة ممكنة من الأمانة بعيداً عن إضفاء المثالية أو الطابع الرومانسي عليها، وهذا لا يعني ربط ولادة الواقعية بتلك المرحلة، فالكتابة الواقعية سابقة وممتدة إلى بدايات رحلة الإنسان مع الأدب والفنون، والتنظير لها ظهر في القرن الثامن عشر على أيدي عدد من كتّاب فرنسا وروسيا، وقد قدّمت النظرية الماركسية القاعدة الأساسية للتنظير للواقعية”.
لكن ما هي الصفة الأكثر أهمية التي توصف بها موضوعات الواقعية؟ يجيب بركات: “إنها مستمدة من الحياة العامة للناس، وتعالج موضوعات حقيقية تسهم في الكشف عن الأوضاع الصعبة والقاسية للمجتمع ككل، وتقوم على إبراز رؤية الكاتب للمجتمع، فتدين عيوبه ومظاهر الظلم فيه، لذلك يتميّز موقف الفنان الواقعي بتمثيل الواقع بأمانة من دون تزييف وتزويق عن طريق شخصيات مختارة من الطبقات الوسطى أو العاملة وبتحليله للسلوك الإنساني وطباعه وآلياته الاجتماعية والسياسية والفكرية بمعرفة وحيادية من دون أن يعني ذلك مطلقاً تصويراً حرفياً ومطابقاً للواقع، أما في جانبها التقني فتستدعي الكتابة الواقعية عدداً من الخصائص، منها: الابتعاد عن الذاتي والمشاعر الخاصة وترك الفرصة للكتابة عن العام وتوصيف الحقائق الموجودة في المجتمع من دون تدخلات الراوي بصورة فجّة من خلال اعتماد المفردات المناسبة للأفراد والأشياء والحالات التي غالباً ما تسودها النظرة التشاؤمية تجاه الحياة الإنسانية والمصير الإنساني، مع الاهتمام بالوثائق والشهادات لتعزيز الانطباع الواقعي فيها”.

وللحديث عن جانب في علاقة الأدب بالواقع، اختارت الدكتورة ناديا خوست رواية “الحرب والسلام” لـ”تولستوي”، تقول: “حرية الكاتب في فحص الحقائق في هذه الملحمة، حيث قصد تقديم النبلاء الوطنيين وجيل المنتصرين على نابليون بونابرت، وأعاد النظر في الحكم على المعارك، وقرّر الاهتمام بالبشر، فصاغ شخصيات الرواية والعلاقات الإنسانية بمهارة المبدع وأنجز لوحة خالدة عن زمان ومكان وأشخاص بعد نصف قرن على نهاية الحرب وغيَّر في النظرة إليها، فصحّح وأضاف بخبرته العملية ومعلوماته التاريخية والجغرافية ووثائقه الرسمية ما استنتجه المؤرّخون، مع الإشارة إلى أنه يجب الانتباه إلى مستوى الثقافة العامة التي سهّلت للمتلقّي فهم أن العمل الأدبي يتجاوز الإغراءات التفصيلية إلى الولاء لمهمّة الأدب المعرفية، وكأن الزمن يحصّن الحقائق، ويصفّي البصر، فيسّهل فحصها من دون ما تلوّنه بها العواطف”.
وتتساءل خوست: “هل يمكن كتابة مثيل رواية تولستوي عن فترة غنية بالأحداث بعد مرور أكثر من نصف قرن عليها، والوثائق والمذكرات المنشورة في الخمسين سنة الماضية تبيح النظر بهدوء إلى تلك الفترة؟ هل يستطيع الكاتب تناول شخصياتها من دون أن يبالي بالحزازات العاطفية؟ والنجاة من التقديس وينزهها عن الأخطاء السياسية؟.. إن الأحداث مادة واقعية غنيّة، لكن من سيكتب رواية كبرى معتمداً صلة الفن بالواقع، سيصطدم بسطحيةٍ ثقافيةٍ رباها نهج إعلامي فكري استبعد الثمين الذي يفترض أن تستند إليه الثقافة، واعتمد الهشّ الذي يروّجه الإعلام السائد”.
وتخلص خوست إلى أنّ: “الرواية الكبرى التي تتناول زمناً وعلاقات وأخلاقاً وشخصيات، تفترض سعة رؤية الروائي، وغنى معلوماته، وشجاعته في فحص الواقع وصدقه، لذلك لا يمكن أن يكون مقيّداً بالمتلقّي في زمنه، بل يتجاوز المزاج السائد والمرويّات الشائعة، واعياً أن الحقيقة الفنية التي يشيّدها برواية كبرى ليست نقيض الحقيقة الواقعية، بل جلو جوهرها وكشف أطيافها”.

بدأ الفن التشكيلي واقعياً مع إنسان الكهوف الذي كان يرسم بشكل واقعي مشاهداته وحياته بشكل بسيط ومختصر حسب الناقد والإعلامي سعد القاسم: “بداية الواقعية كانت قبل 40 ألف سنة، وعندما بدأت الحضارات تتكوّن ظهر اتجاهان متناقضان في الواقعية، الأول: رمزي، سادَ في حضارة الشرق ولم يهتمّ بواقعية الشكل، ليس عجزاً، إنما خيار للفنان الشرقي حين قدّم فنه بهوية رمزية أكثر ما تجلّى في الفن السومري بشكل خاص، ويقوم على المبالغة في رسم حجم الرأس بالنسبة للجسم باعتبار أن الرأس هو الأكثر أهمية في الجسم، كذلك المبالغة في رسم حجم العيون باعتبارها بوابة المعرفة، وهو ما نجده في الفن البابلي لاحقاً وفي الفن المصري، وبالمقابل كان التوجّه في الغرب نحو الكلاسيكية وهي غير الواقعية ولو آلفت الواقع، حيث تبحث عن النسب المثالية في رسم الجسم كما في الفن الإغريقي والنسخ الرومانية اللذين تتشابه أعمالهما على هذا الصعيد، وقد استمر هذان النهجان المتباينان في الشرق والغرب ليحدث التغيير في القرن الـ 18 مع صعود الرومانسية، ومن ثم عودة الكلاسيكية مع قيام الثورة الفرنسية من دون قطيعة بينهما، لكن مع انحدار كبير للكلاسيكية مع استلام نابليون بونابرت، حيث اتجه الفن لتمجيده في الوقت الذي بدا فيه اتجاه جديد نحو الواقعية عبر مجموعة من الفنانين الذين أطلقوا شعار “لقد سئمنا من رسم أقفية الخيل”، في إشارة ساخرة من رسم نابليون وهو على حصانه وإطلاق شعار “الفن للفن” الذي كان يعبّر حينها عن حالة ثورية ضد القصور، فاتجهوا بتأثير من فنان إنكليزي نحو الغابات لرسمها ومن ثم رسم الحياة الاجتماعية، فرسّخوا بعيداً عن رسم أبناء العائلات الكبيرة والأسر الحاكمة موضوعات غير مألوفة تاريخياً، فظهر الفلاحون والحصادون والأطفال المشردون وعمال المناجم في لوحاتهم، وكان يوازي هذه الحركة في الشرق الفنانون الجوالون وقد غيّب أعمالَهم الواقعية الإعلامُ الغربي، ومع ذلك أصبحت أعمالاً خالدة كما في أعمال الواقعية الاشتراكية ولوحات الشهداء والمعارك، حيث بلغت هذه اللوحات ذروتها أيام الحرب العالمية الثانية في واقعيتها وقدرتها على الوصول للناس والتأثر بها، كما حدث في أحد البوسترات الذي كان عبارة عن فلاحة تمدّ يدها باتجاه الناس وقد كتب فيها: “الوطن الأم يناديكم وكان بشهادة النقاد الـ”بوستر” الأكثر أهمية في تاريخ الفن لقدرته الكبيرة في تحريض وتحفيز الناس على القتال”.
وعن التيار الواقعي الموجود في سورية يوضح القاسم: “تجسّد من خلال بعض الفنانين الذين درسوا في الاتحاد السوفييتي وكانوا حريصين على تسجيل وقائع التاريخ أمثال: سعيد تحسين، توفيق طارق، عبد الوهاب أبو السعود، حيدر يازجي، علي خليل، أحمد إبراهيم، ولاحقاً عبد الله العسلي، عصام الشاطر، عصام درويش الذين ظلوا محافظين على هذا الأسلوب”.
ومن حيث انتهى سعد القاسم استكمل الفنان الدكتور محمد غنوم حديثه عن الواقعية في الفن التشكيلي السوري قائلاً: “يتمّ الحديث كثيراً على أن الفن التشكيلي موجّه إلى النخبة وهو ما يزال فناً غير جماهيري، لكن ما هو مثبت حقاً أن الجماهيرية فيه منصبّة على الأعمال الواقعية”.
واقتصر كلام غنوم على تجربتين مهمّتين في المشهد التشكيلي السوري: “تجربة الفنان ناظم الجعفري وتمسّكه الشرس بالواقعية، وتجربة فاتح المدرس في الحداثة والمعارك العنيفة التي قامت ووصلت بناظم الجعفري لأن يطلق على الفنان الذي يتجاوز الواقعية على أنه لا يعرف الرسم، لدرجة أنه شكّك بتجربة بيكاسو لأنه اتجه نحو مدارس فنية عديدة لم تكن تسعده لكونه انحرف فيها عن الأسلوب الواقعي، في حين ظل الجعفري لمدة 70 عاماً يتنقل بين أحياء دمشق ليرسمها، وكان رسماً واقعياً احتلّ مكانة كبيرة في تراثنا التشكيلي، وكان أقرب إلى الجمهور، حيث وثّق أكثر التفاصيل دقةً في هذه الأحياء، وكان معروفاً عبر نحو 5000 لوحة جعلته يتحدث عن الفن بمقدار إتقان الرسام للتفاصيل واختيار موضوعات تهمّ الناس وتتفاعل معهم، في حين كان طابع الحداثة هو الذي اتسمت به تجربة فاتح المدرس الذي كان أحد روادها: “كل طلبة الفنون كان أساسهم الفن الواقعي، لكن لا يجوز التوقف عنده.. لقد فتح فاتح المدرس الرائد طريقاً رحباً في مجال الحداثة وكانت تجربته التي تجاوزت الواقعية أكثر تأثيراً على المتلقي من أعمال ناظم الجعفري على الرغم من كل ما قدّمه، كما كان لها دور كبير في الحركة التشكيلية السورية والعربية والعالمية، لذلك لا يمكن تجاوزها لمن أراد أن يكون الفن التشكيلي طريقاً له”.