موسيقيون يطالبون برفع الأجور والاهتمام بالتقنيات والإنتاج الجديد
ملده شويكاني
تفوّق الموسيقا الأكاديمية بدا واضحاً بالمشهد الثقافي من خلال الإقبال الكبير على أمسيات وحفلات دار الأوبرا، التي تُقدّم بمستوى عالٍ من الدقة والاحترافية، وتلقى دعماً واهتماماً من وزارة الثقافة ودار الأوبرا، لكن ما هي الصعوبات التي يواجهها الموسيقي الأكاديمية؟ وكيف يمكن الارتقاء بالموسيقا الترفيهية في الأمسيات التي تقدّم في المراكز الثقافية؟ وأسئلة أخرى يجيب عنها تحقيقنا، والبداية مع مؤسّس “أوركسترا أندلسيا” المايسترو مؤيد الخالدي المغترب في كندا، والذي يحرص على متابعة مشروعه الموسيقي “رحلة مع الأنغام” بتقديم حفله السنوي في دار الأوبرا بدمشق، وأوضح أنه توجد في سورية مؤسّسات أكاديمية على مستوى عالٍ وتأخذ مكانها الصحيح في كلّ دول العالم وليس في الوطن العربي فقط، والموسيقا الأكاديمية تفوّقت بوجود الموسيقيين الأكاديميين، وتابع: “أصرّ دائماً وأؤكد أن الموسيقي السوري من أكثر الموسيقيين أهميةً في العالم، لأنه يستطيع عزف أيّ نوع من أنواع الموسيقا، سواء العربية أم العالمية، لأنه دُرّب وتخرج على هذا الشيء بسبب التأسيس الممنهج الصحيح، في مرحلة البدايات ثم المعاهد والمعهد العالي للموسيقا ومن ثم تدرجه وتمرينه وتعرّفه أكثر وأكثر على المستويات الراقية بالمشاركة بالكثير من الأمسيات التي تطوّر مهاراته الأكاديمية، وأقصد دار الأوبرا، كما أن المؤسّسات الثقافية العريقة وعلى رأسها دار الأوبرا تدعم الموسيقي، وأرى ذلك من خلال حفلاتي التي أقيمها بالدار وتهتمّ بالموسيقيين الطلاب بالمعهد أيضاً بمشاركتهم بالأمسيات والحفلات”.
وعقب الخالدي على الصعوبات المالية “الموسيقي الأكاديمي لا يأخذ حقه، مقابل الإبداع والجهد الذي يقدّمه على صعيد التحضير والبروفات، على سبيل الذكر حفلاتي تتطلب من خمس إلى سبع بروفات، وكلّ بروفة تتطلب من أربع إلى خمس ساعات، ويخصّص للموسيقي مبلغ زهيد، لا يتناسب مع جهده والمستوى الراقي الذي وصل إليه”، ويتساءل لماذا لا يتقاضى الموسيقي السوري الأكاديمي أجراً مناسباً مقارنة بممثل الدراما؟ ولماذا لا تهتمّ شركات الإنتاج بالموسيقي كما تهتمّ بالدرامي؟ ولماذا لا يعدّ الموسيقي نجماً على الرغم من وجود موسيقيين سوريين نجوم على مستوى عالمي، ولا تقل نجوميتهم عن نجومية أهل الدراما؟ لكن السبب بكل بساطة -برأيه- هو تسليط الضوء على الدراما فقط.
بدوره، أشاد الموسيقي محمد زغلول رئيس مجلس الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بدار الأوبرا، وهي الصرح الأكثر أهميةً لأي موسيقي أو فنان أو عرض فني، لأن أي عمل يعرض على هذا المسرح يكون محققاً لمعايير الجودة الفنية، وتطرق إلى تقديم الموسيقا الأكاديمية للموسيقا التراثية بتوزيع أوركسترالي من دون تشويه اللحن الأساس، منوهاً بأن الخطة الممنهجة بتقديم عروض الموسيقا الأكاديمية الكلاسيكية والحديثة والعربية والشرقية والتراثية والسورية تصل إلى أهدافها، مشيراً إلى أن عدد الموسيقيين الأكاديميين قليل، فلماذا لا يعاملون معاملة خاصة أسوة بالاختصاصات العلمية بموضوع الخدمة الإلزامية بأن تكون ضمن فرقهم، وهذا يحلّ نقص الكوادر، بالإضافة إلى الدعم المادي ولاسيما أن الموسيقي يحمل الآلة ولا يستطيع التنقل بالمواصلات العامة على الرغم من صعوبتها، كما أنه يحمل عبء التجهيزات والإكسسوارات التي تتطلبها الآلة، مع العلم أن دار الأوبرا تؤمن المطلوب لأعضاء الفرق الأساسيين، لكن هذا لا يتوافر لكلّ الموسيقيين الأكاديميين، وأشار إلى ضرورة زيادة النشاطات وعرض البرنامج مرات عدة وتوسيع الدائرة لتشمل المحافظات، كما توقف عند أهمية المستقبل الموسيقي لأطفال سورية وتعليمهم بشكل يؤهلهم لرفد المعهد العالي للموسيقا لاحقاً.
الموسيقي طوني الأمير عازف الباصون والأستاذ في المعهد العالي للموسيقا، أشار إلى أن الموسيقا الكلاسيكية الأكاديمية إن كان بموسيقا السيمفوني أو الحجرة أو الصولو، تتطلب الإتقان الكامل، فلا يوجد مجال لأي خطأ، وتابع: “نحن نبذل جهداً كبيراً أحياناً على مقطع صغير من مقطوعة قد يتطلّب عدداً من البروفات حتى نقدّمه بشكل صحيح مع الانسجام بين أعضاء الأوركسترا، فكل موسيقي يسمع الآخرين، ويعرف ماذا يعزفون، وهذا يتطلّب أيضاً التركيز الكبير مع المايسترو، بالإضافة إلى الخلفية الثقافية النظرية للمقطوعة وللهارموني وتاريخ العمل والمؤلف، ومعرفة لماذا كتب هذا العمل، ومن دون هذه الدقة لا ينجح العمل، وهذا ما يميّز الموسيقي الأكاديمي.
أما الصعوبة التي يواجهها الأمير كموسيقي أكاديمي فهي أنه لا يستطيع تقديم عدد كبير من الأمسيات، لأن كل أمسية تتطلّب تحضيراً طويلاً، لذلك عدد الأمسيات قليل، بالإضافة إلى الجهد الشخصي بأن يكون الموسيقي متلازماً مع الآلة بشكل يومي بالتمرين بشكل منفرد ومع أعضاء موسيقا الحجرة لكلّ جزء، ومن ثم مع الأوركسترا، في حين أمسيات الصولو تتطلّب التمرين بشكل أكبر، وتالياً مردودها المالي يكون قليلاً، ما يجعل الكثير من الموسيقيين يتجهون إلى الأمسيات الأكثر سهولة لتقديم عدد أكبر من الأمسيات، والحصول على مردود مالي أكبر.
ويرى الأمير أن الصعوبات تتعلق بالجمهور أيضاً، فحتى الآن لا يوجد جمهور للموسيقا الكلاسيكية باستثناء الجمهور النخبوي، لذلك أقترح تدارك هذه المشكلة ابتداء من مدارس الأطفال بأن يسمعوا بالحصص الموسيقية موسيقا كلاسيك أيضاً للاعتياد عليها إلى جانب موسيقانا.
عازف البيانو والبايب أورغن أغيد منصور نوّه بالدور الذي قام به المايسترو صلحي الوادي باستقدام الخبراء الروس وإقامة رشات العمل بشكل دائم، للتعرّف إلى المدارس الأكاديمية كاملة وليس الروسية فقط، ما جعل الموسيقا الأكاديمية تتفوق، لكنه تابع الحديث عن الخلل الذي حدث خلال سنوات الحرب وسفر العديد من الموسيقيين بسبب الأوضاع الصعبة، متوقفاً عند مسألة مهمّة جداً وهي ضياع جهد الموسيقي الأكاديمي بتقديم برنامج تطلب منه وقتاً طويلاً بالتحضير والتدريب ليقدمه بأمسية واحدة ثم يتلاشى، سواء بالكونشيرتو أم الأداء الفردي، عكس الموسيقي الأكاديمي في كل دول أوروبا وأمريكا وشرق آسيا وغيرها فإنه يخضع لبرنامج شخصي يمكّنه من التجول في مدن وبلاد عديدة لتقديم البرنامج ذاته، واستثمار جهده، وتعزيز قدراته ومهارته في الأداء، وهذا ما نحتاج إليه، أي أن يقدّم الموسيقي البرنامج في أيام عدة ويتجول بالمدن السورية ومسارحها ومراكزها الثقافية لنشر الثقافة الموسيقية والاستفادة المادية أيضاً، ولاسيما في هذه الأوضاع الصعبة، ومشيراً إلى أن الصعوبة أيضاً في تأمين أجور الجنود المجهولين الذي يساعدون الموسيقي على إقامة الحفل، بالإضافة إلى الصيانة، ما يتطلّب دعم الموسيقيين المادي وتوسيع آلية نشر العمل الموسيقي.
المايسترو والمؤلف والموزّع الموسيقي أحمد رحيم مؤسّس “فرقة وايت بيوتي”، والذي أقام حفلات عدة في مسرح الحمراء، يرى أن أيّ حفل موسيقي مدروس ومتقن هو واجهة حضارية وثقافية، يترك أثره لدى الجمهور ابتداء من العنوان، مروراً بالبرنامج ومن ثم التوزيع وأصوات المغنين والتقنيات الفنية، فالحفل مسؤولية كبيرة يحملها المايسترو ليس على صعيد البرنامج فقط، إنما لإرضاء أذواق الجمهور، وتنسيق البروفات والمكان والبوستر وغيرها، ويرى أن الصعوبات بالأوضاع الصعبة التي يتدرّب بها الموسيقيون في الجو الحار من دون تكييف وبأماكن لا يوجد فيها كهرباء ما يمنع من استخدام الآلات الكهربائية، بالإضافة إلى الأجور القليلة التي لا تتناسب أبداً مع الغلاء بالأوضاع الحالية، ومن جانب آخر يرى رحيم أن الارتقاء بالموسيقا في أي مسرح ثقافي يتطلب اختياراً دقيقاً للمشاركين.
كما أثار الموسيقي عازف الأورغ بسام الطباع المحترف مشكلة الأجور المنخفضة التي يتقاضاها الموسيقي من مديرية الثقافة والتي لا تتجاوز الثلاثة آلاف ومائتي ليرة سورية، ولا تكفي أجور مواصلات، بالإضافة إلى وجود أجهزة صوت قديمة في المراكز الثقافية لا تصلح للموسيقيين وتخفض من أداء المغني، في حين يتقاضى الموسيقي من مديرية المسارح والموسيقا مبلغاً أفضل، بالإضافة إلى وجود إذاعة بصوت جيد وبإشراف مهندسي الصوت، منوهاً بأن الارتقاء بالموسيقا الترفيهية يكون بالأداء وبالتقنيات والتحضيرات الجيدة والمركزة، وبرفع أجور الموسيقيين والمشاركين.
وختاماً مع الباحث الموسيقي شادي سروة مؤسس “مهرجان قيثارة الروح”، الذي أثنى على الموسيقا الأكاديمية التي قدّمت مادة موسيقية بمستويات عالية من الاحترافية للجمهور السوري الذي يصنّف قسم لا بأس به بالنخبوي فيما يتعلق بمعرفته بأنماط الموسيقا، لكن هذا التفوق نتجت عنه سلبيات، منها أن الدعم والاهتمام غير متوازنين مع بقية شرائح الموسيقيين، إذ توجد طاقات إبداعية كبيرة في مجال الموسيقا لكنها ليست خريجة المعهد العالي للموسيقا، ولا ضمن ملاك دار الأوبرا، وهي فئة مظلومة، كما أشار إلى غياب أنماط من الموسيقا التي يجب أن تكون امتداداً للإرث الموسيقي السوري مع التقدير لكل ما يقدمه المايسترو عدنان فتح الله في المعهد العالي للموسيقا وفي الفرقة الوطنية للموسيقا العربية، لكن هذا المجهود الفردي لا يكفي لحماية إرث بلد، وهذا يتطلّب عمل مؤسسات ليس فقط حكومية، تكون لها خطط للحفاظ على إرث مجتمعها القديم والتشجيع على النتاجات الجديدة، ويضيف: “أيضاً هناك غياب الدعم الفعّال للموسيقيين الذي يحقق لهم الكفاية والاستقرار، ومن خلال تجربتي الشخصية أقول هناك غياب للبنية التحتية للإنتاج الموسيقي، فإذا وجد مسرح يمكن دفع أجوره أو يتمّ الإعفاء منها تكون فيه أجهزة الصوت والإضاءة ضعيفة أو لا تعمل، بالإضافة إلى عدم وجود تمويل لنفقات حفل يقدّمه الموسيقي بشكل شبه تطوعي”.