دراساتصحيفة البعث

أزمات الاتحاد الأوروبي الاقتصادية

ريا خوري

يشهد الاقتصاد الأوروبي حالة تأرجح نتيجة الأزمة الاقتصادية الحادة وصدمة الطاقة التي تعرّض لها منذ عام 2022 عقب الحرب الساخنة في أوكرانيا، وهو ما قد يهدّد السياسات البيئية بشكلٍ عام، حيث تسعى دول الاتحاد الأوروبي جاهدةً للتخلّص من الأزمات.

فمنذ تلك الصدمة ازداد تأرجح الاقتصاد الأوروبي تحت ثقل العديد من الأزمات الاقتصادية بشكلٍ أوسع، وعلى الرغم من أن أغلب اقتصادات الاتحاد الأوروبي تخطّت المرحلة التي بلغ فيها التضخم مستوياته القصوى، بانخفاض أسعار الطاقة وتحديداً الغاز، إضافةً إلى السياسات المالية التي فرضها البنك المركزي الأوروبي، لكن الانكماش والتراجع سيستمر في مرافقتها طوال العام الجاري على أقل تقدير.

هذه الأوضاع الاقتصادية تأتي في سياق دولي من المحتمل أن يكرّس وطأتها على دول المجموعة الأوروبية بأكملها، كما في ظلّ سير الاتحاد الأوروبي نحو سَنّ قوانين لهدف إجراء إصلاحات مالية جديدة التي قد تقطع أجزاء كبيرة من التمويلات عن أعضائه، لذلك هناك العديد من الظروف التي يرى فيها خبراء ومحللون أنها قد تهدّد المشاريع الكبرى التي يعتزم الاتحاد الأوروبي تطبيقها، وعلى رأسها (اتفاق الأخضر) وسياسات التحول في مجال الطاقة. وهذا ما يدفع لمتابعة المقايضة غير المعلنة التي تنطوي عليها عضوية الاتحاد الأوروبي، وهي التضحية بالسيادة الوطنية والديمقراطية في مقابل الرخاء الاقتصادي، حيث ستتخلى الدول الأعضاء عن قدر كبير من هيمنتها وسيطرتها على مجالات السياسة الحاسمة لصالح نخبة تكنوقراطية غير منتخبة أصلاً، وهي مكلفة بتوفير مستويات معيشية وإنتاجية أعلى.

والأسوأ من كلّ ذلك أن اقتصاد الاتحاد الأوروبي على وشك أن يتحمّل عقوداً من الصعوبات الاقتصادية القاسية على المدى البطيء، وهذا ليس التكهن القاتم الذي أطلقه عدد غير قليل من المشكّكين في أوروبا أو الشعبويين المتطرفين، بل رئيس البنك المركزي الأوروبي ورئيس وزراء إيطاليا السابق، ماريو دراغي، أحد كبار البيروقراطيين، ففي الأسبوع الماضي، كشف دراغي عن تقرير ضخم مؤلف من أربعمائة صفحة، بتكليف من الاتحاد الأوروبي، حول (مستقبل القدرة التنافسية الأوروبية). التقرير المدروس بإحكام يقدّم معلومات دقيقة حول معاناة الاتحاد الأوروبي من المشكلات الاقتصادية العميقة، وركوداً في مستويات المعيشة، وعجزاً جيوسياسياً، وتخلفاً تكنولوجياً في غياب أي عملية إصلاح جذرية تعيد الأمور إلى سابق عهدها.

فعلى سبيل المثال لا الحصر يعتبر الاقتصاد الألماني أكبر اقتصاد في أوروبا، وهو الذي يواجه الركود الأقسى بين اقتصادات الاتحاد الأوروبي قاطبةً، فقد كانت وزارة المالية الألمانية قد أشارت إلى ذلك في شهر كانون الثاني الماضي، إذ إن المؤشرات المبكرة الحالية للاقتصاد لا تشير إلى انتعاش اقتصادي سريع في ألمانيا الاتحادية خلال العام الحالي 2024، بعد موجة الانكماش التي رافقت ذلك الاقتصاد على طول العام الماضي.

الجديرُ بالذكر أنه في مطلع القرن العشرين، كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على قدم المساواة نسبياً، ولكن على أساس نصيب الفرد (الدخل القومي للفرد)، لم ينمُ الدخل المتاح الحقيقي في الاتحاد الأوروبي إلا بنصف معدل الولايات المتحدة منذ عام 2000. والآن تتفوق الولايات المتحدة بشكلٍ كبير على الكتلة في ملف التكنولوجيا المتقدمة وفي مجال الذكاء الاصطناعي، ولا يوجد سوى أربع شركات تقنية أوروبية متطورة من بين أكبر خمسين شركة في العالم. كما فقدت دول الاتحاد الأوروبي الـ ٢٧ ما يقرب من مليون وظيفة في قطاع التصنيع والإنتاج الصناعي في السنوات الأربع الماضية وحدها.

في الطرف الآخر، يبدو جلياً أن اقتصادات إسبانيا وإيطاليا واليونان، التي تضرّرت بشدّة من أزمة اليورو وحالة التقشف الذي فرضه الاتحاد الأوروبي، أصبحت اليوم أصغر مما كانت عليه في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وضغطت ألمانيا الاتحادية، كونها القوة الاقتصادية التقليدية للاتحاد، على فرامل عجلتها الصناعية إلى حدّ كبير. أما ما يجري في فرنسا، وهي ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، فإنّ الدَيْن يتصاعد إلى مستويات مماثلة لتلك التي شهدتها إيطاليا قبل أزمة اليورو مباشرة. وتتمثل تكلفة كلّ هذا النمو المفقود في انخفاض جودة الحياة المعيشية، وإرهاق الخدمات العامة بشكلٍ غير مسبوق، وتدهور البنية الرئيسية.

تلك القضايا دفعت العديد من كبار الخبراء الاقتصاديين للتساؤل حول ما الذي ينبغي عمله؟ وفقاً لماريو دراغي، فإنّ إعادة التفكير الجذريّ في الكيفية التي تتعامل بها بلجيكا مع الاستثمار والسياسة التجارية وتنظيم الأعمال التجارية من شأنه أن يُخرج الاتحاد الأوروبي من أزماته. وأكثر مطلب يلفت الانتباه إليه هو خطة استثمارية مموّلة من دول الاتحاد الأوروبي بقيمة ثمانمائة مليار يورو سنوياً، وهو مبلغ كبير جداً ولم يسبق أن تمّ رصد أي مبلغ بهذا القدر، وهو أكثر من ضعف حجم “خطة مارشال” بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام ١٩٤٥م.

ولكن إذا كان الخيار الذي يواجه أوروبا، كما يعتقد دراغي، هو التغيير الجذري أو الصعوبات الاقتصادية القاسية على نحو بطيء، فإن الأخير هو ما ستحصل عليه. فقبل مدة قريبة، عارض وزير المالية الاتحادي الألماني كريستيان ليندنر الاقتراح الأساسي بإنشاء صندوق استثماري على مستوى دول الاتحاد الأوروبي، ورفضت الخطة بلدان (مقتصدة) أخرى، مثل هولندا. وعلى الرغم من أنّ تقرير رئيس البنك المركزي الأوروبي لاقى استحساناً في فرنسا، فإنّ الإسراف في الإنفاق على مستوى الاتحاد الأوروبي سيكون من الصعب تسويقه سياسياً في وقت تخطّط فيه الحكومة الفرنسية التكنوقراطية الجديدة لجولة قاسية من التقشف لتلبية مطالب بلجيكا.

في هذا السياق نجد أنّ المفارقة كبيرة هنا، وهي أنه إذا اقترحت حكومة وطنية مثل هذه الخطة الاستثمارية الضخمة، فسوف يرفضها الاتحاد الأوروبي على الفور ويبوخها لانتهاكها القواعد المتعلقة بالعجز المالي العام والمساعدات الحكومية، ذلك أن بلجيكا تمنع الدول الأعضاء من القيام باستثمارات عامة ضخمة، في حين تمنع الدول الأعضاء بلجيكا من متابعة إستراتيجية على مستوى الاتحاد الأوروبي.

وللتعقيب، تشير رئيسة البنك المركزي الأوربي السابقة كريستين مادلين أوديت لاغارد إلى أن ستين بالمائة من الشركات في الاتحاد الأوروبي ترى التنظيم المعقد من بلجيكا حاجزاً للاستثمار والابتكار. وبينما أقرّت الحكومة الفيدرالية الأمريكية نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة تشريع ونحو ألفي قرار بين عامي 2019 و2024، أضاف الاتحاد الأوروبي ثلاثة عشر ألف لائحة في الفترة نفسها. ما يعني أنه وحتى لو نجحت خطة ماريو دراغي بطريقة ما، فإنها لن تعالج جميع الإخفاقات التي يعانيها الاتحاد الأوروبي وهي حرجة للغاية.