بين الايدولوجيا والتكنولوجيا
د . خلف المفتاح
يقف وراء كل صراع إيديولوجيا أو فكرة يحملها أطراف الصراع وقوة مادية تكنولوجية تستخدم وسيلة وأداة في القتال. وعبر التاريخ البشري وصراعاته وتداعياته، كانت الايدولوجيا إلى حد ما تتسم بالثبات أو يعاد تعريفها، بينما تطورت بشكل كبير أدوات الصراع المادية من السيوف إلى الأقواس والمنجنيق والمدفع والدبابة، وصولاً للطائرات والسلاح النووي والمسيرات والحروب السيبرانية والتقانة المتطورة، وصولاً للذكاء الاصطناعي.
راهناً وفي مقاربتنا للصراع القائم في منطقتنا العربية مع العدو الصهيوني وداعميه، نجد أنه في مطويات الصراع ومضامينه كلا العاملين التكنولوجي والإيديولوجي، ولعل الصهاينة ومنذ بداية المشروع الصهيوني اعتمدوا على العنصر التكنولوجي عنصراً أساسياً في الصراع لقناعتهم بأن فائض القوة البشرية عن خصومهم متفوقة بشكل كبير، فعملوا على تعويض ذلك بفائض القوة التقنية والمعرفية، لذلك وجدناهم ومنذ وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وإطلاق أيديهم فيها استيطاناً وتوسعاً، عملوا على بناء قاعدة علمية لجهة قيام كيان علمي يهودي قبل الكيان السياسي، فكان إنشاء “الجامعة العبرية” عام 1925 ويدشنها المندوب السامي البريطاني بحضور حاييم وايزمن رئيس المؤتمر اليهودي. وفي العام 1925يقام معهد “التخنيون” ليكون أهم مركز بحثي وعلمي في ذلك التاريخ تبلغ موازنته في الوقت الحاضر سبعة مليارات دولارـ ويضم نخبة العقول العلمية الإسرائيلية والأوربيةـ ما حدا بوايزمان القول: “إننا أقمنا إسرائيل العالمية قبل إسرائيل الكيان السياسي”.
وبعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948 ركز على مسألتين أساسيتين: جودة التعليم والبحث العلمي، والتوسع في مراكز الأبحاث والدراسات، وصناعة بنك عقول واستقطابها، وبالفعل لم تمض على قيام الكيان سوى ثماني سنوات حتى تم بناء مفاعل ديمونا لإنتاج السلاح النووي بمساعدة فرنسية، وتشير الدراسات العسكرية إلى أن “إسرائيل” تملك أكثر من 200 قنبلة نووية من إنتاج ذلك المفاعل، وبالمقابل تعمل على الحيلولة دون امتلاك أي بلد عربي أو إسلامي معاد لها تلك الإمكانية، لذلك قامت بتدمير المفاعل النووي العراقي تموز عام 1981، وموقع الكبر في سورية عام 2007 . وعند قيام الحرب الإرهابية على سورية، قامت بقصف مراكز البحوث في جمرايا وغيرها، إضافةً إلى استهدافها للعلماء في أغلب الدول العربية واغتيالهم، وسعيها حالياً لعرقلة امتلاك إيران القدرة النووية لتبقى محتكرة لها بوصفها عامل ردع .
وفي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2023 خصص رئيس وزراء الكيان الصهيوني أكثر من نصف الكلمة عن تفوق “إسرائيل” في مجال الذكاء الاصطناعي، وقدرتها على تزويد دول العالم بهذه التقانة المتقدمة، ليقول للحاضرين أن “إسرائيل” إذا كانت حاجة غربية إستراتيجية عند قيامها، فإنها اليوم ضرورة علمية وتقانية تحتاجها دول العالم الراغبة بمواكبة عصر التقانة والمعرفة. ولعل ما قام به الكيان الصهيوني واستخباراته خلال الحرب على غزة ولبنان وتفجيره لأجهزة الاتصال والإرسال عبر استخدام التقانة المتقدمة، هو مسار في هذا السياق الذين يرون فيه عامل تفوق وردع للخصوم .
إن الايدولوجيا الدينية المتطرفة التي نشأ واستمر عليها هذا الكيان ووصولها خلال السنوات الأخيرة إلى المستوى القيادي السياسي سواء في الحكومة أو الكنيست وقيادة الجيش والمؤسسات التعليمية وتحالف اليمين الديني المتطرف مع اليمين القومي المتطرف، هو الذي يفسر هذه العدوانية والتعطش للدم والتغول في الدم الفلسطيني واللبناني، فنحن أمام لاهوت سياسي وديني حول الايدولوجيا المتطرفة إلى سلوك عملي معبراً عنه بالقتل والإرهاب والإفراط في العنف غير المسبوق عبر استخدام واستثمار للتكنولوجي لتحقيق الإيديولوجي، وهنا مكمن الخطورة والخطر وضرورة التنبه والحذر والحيطة، وضرورة أن نمتلك بوصفنا نواجه ذلك المشروع الخطير كل عناصر القوة التكنولوجية إلى جانب إيماننا بأننا أصحاب حق وعدالة، ولدينا العقيدة والإرادة الوطنية والعزيمة والثقة بالنصر، ولكن لابد لنا أن نتمكن من كل أسباب وعناصر التكنولوجيا الحديثة فالحق بحاجة لقوة تحميه، فلا الايدولوجيا وحدها كافية، ولا التكنولوجيا لوحدها كافية، فلابد من تكامل وتماه بين التكنولوجيا والايدولوجيا لتحقيق النصر .