أمريكا.. أمريكا!
أكاد لا أصدّق كل هذه الجرأة والجسارة الواسمتين لكل ما يصدر عن الولايات المتحدة الأمريكية من أفعال وأقوال وتصرفات وسلوكيات خلال السنة الماضية، أعني منذ 7 تشرين الأول 2023، وحتى اليوم، وهي في اجتماعها وكليتها ورؤاها ومقاصدها باعثة على العجب العجاب، والسبب الجوهري في هذا الأمر يعود إلى الاضطراب والارتباك واللامبالاة واللامسؤولية وغياب الدوافع الإنسانية لتأييد الحق ونصرة القيم النبيلة من جهة، والسكوت على الظلم الذي يقترفه الكيان الإسرائيلي منذ 76 سنة فوق الأرض الفلسطينية المحتلة من جهة أخرى، وما يضاف إليه من تهديد ووعيد لدول الجوار.
الولايات المتحدة الأمريكية، وفي وقفة أمام خط بياني لتصرفاتها وأقوالها خلال السنة الماضية فقط، يشير إلى أنّ العالم كلّه، وليست منطقتنا فقط، محكوم بالقوة، وليس بالقانون الدولي بما فيه من مكنونات، لأنّ القانون الدولي لا حضور له، وبلا أهمية، وبلا مكانة في كل ما صدر عن أمريكا، لا بل إنّ مدرسي مادة القانون الدولي في الجامعات، اعتذروا عن قولتهم الشهيرة لطلابهم إن “القانون الدولي ضرورة حياتية للسلام العالمي”؛ أمريكا ومنذ 7 تشرين الأول 2023، هرعت إلى الكيان الإسرائيلي باكية معزية داعمة لأنها صدّقت كذبة رئيس وزراء “إسرائيل”، بأنّ الفلسطينيين الذين خرجوا إلى فضاء غلاف غزة قطعوا الرؤوس، واغتصبوا النساء، وقتلوا الأطفال، وقد تبين لاحقاً أنّ كل هذا كذبة فاقعة ليس إلا، وأنّ دموع الإسرائيليين هي دموع تماسيح، أي كاذبة أيضاً، فلا قطعت رؤوس، ولا اغتصبت نساء، ولا قتل أطفال، ومع ذلك فتحت مستودعات الأسلحة الأمريكية المخزنة في القواعد الأمريكية المقامة فوق الأراضي الفلسطينية، وأعطي الكيان الإسرائيلي كل ما أراده من دون حساب، والأموال، وهي أموال مساعدات، انهالت، وبالمليارات، ووصلت إلى البنوك الإسرائيلية، وفرق التجسس الأمريكية التي عملت في أفغانستان والعراق شاركت الإسرائيليين في حربهم على قطاع غزة، وحاملات الطائرات، والبوارج، والغواصات، ملأت البحرين الأحمر والمتوسط دعماً للكيان الإسرائيلي، وتخويفاً لكل يد من الممكن لها أن تمتد لمساعدة الفلسطينيين، وأمريكا، خلال السنة الفارطة، جرّت دول الغرب كلها، إلا من عصم ربك، من أجل مساندة الكيان الإسرائيلي بالسلاح، والمال، والمواقف السياسية، وهي، أعني أمريكا، التي أخذت قرارات الفيتو مرات عدة ضد وقف الحرب الإسرائيلية المشنونة على قطاع غزة والضفة الفلسطينية المحتلة، وهي التي أقامت ميناء عائماً، بأموال عربية، وظّفته لغاياتها مدة شهر، ثم ألغته، وهي التي لم تنتصر لرؤاها وطلباتها التي وجهتها للقيادة الإسرائيلية بألّا تهجّر الفلسطينيين من شمال القطاع إلى جنوبه، مع أن إسرائيل عملت العكس تماماً، وبألّا تدخل رفح، فعملت إسرائيل العكس تماماً، وبألّا تقيم حاجز نتساريم، فعملت إسرائيل العكس تماماً، وبألّا تحتل معبر صلاح الدين ـ فيلادلفيا ـ وتحتفظ به، فعملت إسرائيل العكس تماماً، وبألّا تحتل معبر رفح، وألّا تغلقه، فعملت إسرائيل العكس تماماً ودمرته، وأن تسمح بدخول المساعدات إلى مناطق القطاع، فعملت إسرائيل العكس تماماً، وبألّا تهاجم تجمعات الإيواء في المدارس، فعملت إسرائيل العكس تماماً، وألّا تدمّر مؤسسات وهيئات الأمم المتحدة، فعملت إسرائيل العكس تماماً، و…، وأمريكا لم تحرّك ساكناً، ولم تتخذ قراراً واحداً ضد إسرائيل فيه رائحة تهديد أو وعيد، بل ظلّت مختبئة ومتوارية وراء سياسة (اللعم) عبر تصريحات للبيت الأبيض، ووزارة الخارجية، وزارة الدفاع تقول صراحة: نظن، ونقترح، ونرغب، ونأمل، ونرى، ونحاول، ونسعى، ونعمل على ..، وهذا كله غير معهود في السياسة الأمريكية إلا إذا كان الأمر متعلقاً بإسرائيل!
بلى، أمريكا وطوال تاريخها، لم تهادن أحداً، أو تسكت على أحد، أو تعطي أحداً ما لا يعطى للآخرين، أو تمشي وراء أحد، أو تتبنى آراءه، سوى الكيان الإسرائيلي، وهذه حال غير مسبوقة في التاريخ البشري من الذبح، والتهجير، والاعتقال، وتدمير المشافي والمدرس، وحرق خيام اللجوء، وهي من الخيش والقماش والنايلون، وحرق سيارات المساعدات على الطرق، وقتل المدنيين الفلسطينيين في دور العبادة والمشافي والمدارس والطرق، وتدمير سيارات الإسعاف.. كل هذا يحدث أمام الكاميرات، وتراه أمريكا، لكنها لا تفعل شيئاً مخالفاً لما تريده إسرائيل، لا بل إنّها لا تسمع هتاف أبنائها طلبة الجامعات الذين انتصروا للمعاناة الفلسطينية، فعطلوا الدراسة، وانصرفوا عن الامتحانات، وفضحوا علاقات الجامعات الأمريكية بإسرائيل، وهي علاقات راعبة في استثماراتها.
نعم أمريكا، أمريكا الكتب، والقوانين، والفنون، والآداب، والديموقراطية، والقيم، ودروس التاريخ (المجتباة من حربها الأهلية)، ودروس التاريخ المستفادة من حرب فيتنام، والبلقان، وأفغانستان، والعراق،والصومال..، لا تنتصر للشعب الفلسطيني، ولا تحس بما يعانيه، ولا تسمع ما ينادي به، ولا تدرك أنّ كل مشكلات المنطقة، كلها بالمطلق، سببها (إسرائيل)، إنها لا ترى إلا بعين واحدة، هي عين السيكلوب!
حسن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com