العدو و”متلازمة تشرين”
أحمد حسن
منذ اللحظة الأولى لتبلور فكرة إقامة الكيان الغاصب، في منطقتنا، حكمته، ومن وقف خلفه، فكرة واحدة مفادها بأن الصراع مع شعب المنطقة وقواها الحيّة هو صراع وجود لا حدود، وبالتالي هو صراع لا يقبل أنصاف الحلول ولا التسويات، إلّا المذلّة منها، ولا يحتمل التعايش، إلّا الدوني منه. وإذا كان ذلك ما تبدّى منذ ما قبل عام 1948، فإنه ترسّخ لاحقاً عبر مسارين اثنين: أولهما عسكري يتمثّل بالمجازر الجماعية الإبادية الطابع، وثانيهما سياسي وثقافي يتمثّل بسرقة ما يمكن سرقته من تراث وفكر وثقافة المنطقة، وتزييف وتشويه ما يتبقى منه بهدف استلاب و”إبادة” الوعي الوطني للشعب العربي من الوجود، وتلك قصة شارك بها، للأسف، أطياف عربية بالشكل واللسان وإن لم تكن كذلك بالعقيدة والإيمان.
بيد أن هذا المخطط تعرض لنكسة حقيقية في عام 1973، عقب حرب تشرين التحريرية التي أثبتت للعالم بأسره، والعدو فبل غيره، أن العرب وتحديداً، قلبهم النابض، ليسوا وليس في وارد الاستسلام، وأن الكيان وجيشه ليسا “أسطورة لا تُقهر”. ومنذ تلك اللحظة الفارقة، وهذا الكيان يعاني ممّا يمكن تسميته “متلازمة تشرين”، ويحاول ما في وسعه علاجها عبر وأد أي إمكانية فعلية لاستعادتها، وذلك ما يفسّر، وإن كان لا يبرّر أبداً، جنونه المطلق في هذه الأيام، وخاصة أن “تشرين” ذاته أنجب في العام الماضي – وبعد نحو نصف قرن من ظن العدو أنه نجح بإجهاض مفاعيله – سيول “طوفان الأقصى” التي جرفت مرة أخرى “أسطورة” الكيان المجرم.
بهذا المعنى، نفهم اليوم، وأكثر من كل يوم مضى، الأهمية البالغة للسادس من تشرين الأول عام 1973، باعتباره يوماً مفصلياً حاسماً حمل الكثير من الدلائل والدروس بشقيها التكتيكي والاستراتيجي، ورسم حداً فاصلاً بين تاريخين وزمنين، حتى يصح فيه القول إن ما بعده ليس كما قبله، فقد كان أولاً وقبل أي شيء آخر يوماً ولّاداً لما أتى بعده، وما كل المخاض السياسي والعسكري الذي تلاه، تعقيداً أو تسهيلاً، إلّا نتيجة عنه، فالعدو مع أذرعه سعى جاهداً لمحوه من الواقع والذاكرة، فكانت “كامب ديفيد”، و”بناتها” اللاحقات، وكان اجتياح لبنان ثم الفتنة في سورية وما تلاها، لكن ومن نتائج تشرين التحرير أيضاً كان صمود دمشق الأسطوري في وجه تلك الفتنة، وسحقها لجحافل الإرهاب التكفيري المدعوم صهيونياً وغربياً عبر تلاحم جيشنا مع قائده الرئيس بشار الأسد، كما كان انتصار تموز 2006 وقبله تحرير الجنوب عام 2000 وصولاً إلى تشرين 2023، الذي لا يُخفى على أحد رؤية نسبه الشريف الممتد إلى سلفه التشريني الأول.
والحال، فإن السادس من تشرين 1973 لم يكن وليد صدفة، بل كان خطوة أساسية في سياق الاستراتيجية السورية التي رسم معالمها القائد المؤسس حافظ الأسد، منذ أن قام بالحركة التصحيحية يوم السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970، لتحقيق أهداف عدة، أهمها تحرير الأرض من الاحتلال، وتحرير الإنسان من مجموعة أوهام وقيود كبّلت حركته ومنعته من تفجير طاقاته الكامنة، وهذا ما اقتضى العمل الدؤوب على تأمين وتحصين فضاءات جيوسياسية متعددة ومترابطة في الآن ذاته، تبدأ من الداخل لتنطلق إلى الخارج، بالتزامن مع تخطيط عملاني دقيق للمعركة نمّ عن عقل استراتيجي فعال، يعرف إمكانات العدو وقدراته، ويعمل باستمرار على تطوير إمكاناته الذاتية، وموائمة أهدافه معها، وعندما يخطط للحرب يأخذ في حسبانه كل التفاصيل مهما بلغت دقتها، وهو ما تجلى حتى في اختيار اليوم والتوقيت المناسبين، وتلك عبرة تشرين التحرير الكبرى وذلك إرثه الذي أصاب العدو بـ”متلازمة تشرين” التي ستلاحقه حتى النهاية.