عام على طوفان الأقصى .. صدمةً للعقل الصهيوني
د.معن منيف سليمان
مثَّلت معركة طوفان الأقصى صدمةً إستراتيجية جديدةً وخطيرةً هددت مستقبل الكيان الصهيوني؛ فحركت كل القوى الحية في الأمة، وأظهرت بوضوح الانهيار المتسارع لهذا الكيان، وهو يخوض معركة البقاء الثانية له منذ 1948، ويتخبط في أطول الحروب في تاريخه، عام كامل وهو عاجزٌ عن تحقيق أهدافه المعلنة، على الرغم من الدعم الغربي غير المحدود.
لقد أشارت طوفان الأقصى على تطورات القضية الفلسطينية لصالح الأمة ومشروع التحرير، وهو قوى المقاومة، وتطور قدراتها العسكرية والاستخباراتية، مثل فصائل المقاومة الفلسطينية، والمقاومة في لبنان، والمقاومة العراقية، والمقاومة اليمنية، وهو ما صعَّب على الكيان الصهيوني إدارة الصراع، بفقدانه زمام المبادرة في التحكُّم، بسبب هذا الانتقال الخطير، من الدول التي يسهل رَهْنُها، إلى حركات المقاومة التي يصعب ترويضها، بعد تحييد الجيوش العربية الرسمية من الصراع، عبر المسلسل العبثي للسلام، ومشروع صفقة القرن، واتفاقيات أبراهام، والخروج المتتالي للدول من دائرة الصراع.
كانت الإرادة الدولية تتَّجه إلى تصفية القضية الفلسطينية من أساسها، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنَّ معركة طوفان الأقصى أعادت القضية إلى سُلَّم أولويات العالم، وجعلتها الملف الساخن والأول على جدول أعمال المجتمع الدولي، وهي من المكاسب الإستراتيجية لهذه المعركة في تعرية هذا الكيان النازي وفضحه أمام العالم، فكان هذا الطوفان المبارك صدمةً للعقل الصهيوني، بالقضاء على التفاؤل بالمستقبل الوجودي للكيان.
ومنذ أن أعلنت “إسرائيل” الحرب البرية على غزّة وجيشها يتعرّض إلى ضربات نوعية مؤثّرة نجم عنها خسائر متنوعة في المعدّات ومقتل عشرات الجنود، وكان كمين الشجاعية أكبر خسائر الجيش الإسرائيلي في يوم واحد، مع مشاهد تفجير الدبابات وناقلات الجند، وأصبحت حياة الإسرائيليين في الملاجئ وصفارات الإنذار لا تنقطع في يافا “تل أبيب” وباقي المغتصبات الصهيونية، في محطة من أصعب محطات الصراع العربي – الصهيوني وأشدّها وطأة على الإطلاق، ولا سيما أن المقاومة ما زالت مرتاحة ولم تستخدم إلى الآن كامل قوتها البشرية والتسليحية.
وتتابع سلسلة الاستقالات في جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ عملية طوفان الأقصى مع احتمال أن تتوالى في الأيام القادمة، بسبب سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، والإخفاق الاستخباري الذريع في تحديد نيات المقاومة الفلسطينية وتقديم تحذير بشأن الهجوم المفاجئ، ما قد يعصف بحكومة “نتنياهو” ويطيح بها.
إن هذه الاستقالات تكشف عن مدى التخبط الذي يعيشه قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي وتفككه، ويرى مراقبون أن الاستقالات لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستتوالى في الأيام المقبلة، وقد تتوسع أمواجها لتجرف معها حكومة “نتنياهو” بأجمعها.
ووضعت الحرب على غزّة الاقتصاد الإسرائيلي على حافة الانهيار؛ خسائر فادحة وإفلاس وشيك، وتقارير تحذّر من الانزلاق في الركود، وسط توقعات باستمرار الأزمة إلى سنوات مقبلة، ومن العقارات والمصارف والبورصة، مروراً بالعملة وسوق العمل وشركات التكنولوجيا والصناعات، وصولاً إلى عجز الموازنة والنمو الاقتصادي، يسود اللون الأحمر إيذاناً بانهيار يعمّق أزمة غير مسبوقة، قد تكون بداية نهاية المشروع الاستيطاني الصهيوني.
وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة لإعادة بناء قوة الردع المتآكلة بعد هجوم السابع من تشرين الأول الماضي، أخفقت قيادة الاحتلال في تحقيق أهدافها، فعلى الرغم من حجم الاستعراضات العسكرية والقوة الهائلة التي استخدمها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، أخفق جيش الاحتلال في استعادة الردع الإسرائيلي، حيث لا تزال المقاومة إلى اليوم تقتل وتأسر والقذائف تنهال على مستوطنات وقواعد الكيان من غزة ولبنان واليمن والعراق، وكل يوم تعلن المقاومة الفلسطينية قتل وإصابة جنود إسرائيليين وتدمير آليات عسكرية في القطاع، وتطلق الصواريخ من حين إلى آخر، وتبث مقاطع مصورة توثق بعض عملياتها.
وأدى سقوط نظرية الأمن الإسرائيلي التي وضعها “بن غوريون” إلى حدوث خلل كبير في حماية الكيان بعد انهيار قواعد الأمن الثلاثة: أولها الردع الشديد، لإخافة أية دولة تفكر في مهاجمة الكيان. وثانيها الإنذار المبكر الذي انهار مع تدمير أنظمة التجسس والمراقبة التي تكشف أي هجوم محتمل. وثالثها الحسم السريع، حيث خاض الكيان عدة حروب مع العرب انتهت بسرعة خاطفة وحققت من خلالها نتائج كبيرة. ولكن اليوم قاربت الحرب على السنة ولم تتقدم خطوة واحدة ولا تزال نظرية الأمن الإسرائيلي تتآكل يوم بعد يوم.
وأسهمت عملية “طوفان الأقصى” في ارتفاع أعداد المهاجرين الإسرائيليين بشكل عكسي من فلسطين، حيث غادر الآلاف منذ شهر تشرين الأول الماضي بعد إخلاء مغتصبات غلاف غزّة، وفي ظلّ استمرار استهداف يافا “تل أبيب” والمغتصبات الأخرى في الأراضي المحتلة بصورايخ المقاومة الفلسطينية، سرت دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي داخل الكيان الصهيوني تحت عنوان “لنغادر البلاد معاً”، واكتظّ مطار بن غريون (اللد سابقاً) بالمغادرين الهاربين من حيث أتى أجدادهم، إلى أوروبا وأمريكا وروسيا وغيرها من الدول، في حين توقف المطار نفسه عن استقبال أي وافد جديد من الخارج. هذه الهجرة تستنزف الكيان وتنهي “دولة الأمان” التي بدأت في الانهيار فعلاً، وسوف تتصاعد مع تصاعد ضربات المقاومة وتؤدّي إلى زوال الكيان في نهاية المطاف.
ويتعرّض جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى سلسلة من الإخفاقات والهزائم المتكرّرة، ومنّي بخسائر فادحة في المعدّات والأرواح ما انعكس سلباً على الروح المعنويّة للجنود، وأدّى إلى زعزعة الثّقة بالنّفس قاد إلى حالة مرضيّة حتّى بات مئات الجنود يعانون من اضطرابات نفسيّة وأعراض التوتّر من صدمات الحرب وأهوالها.
وبعد عام كامل من العدوان لم يحقق جيش الاحتلال الصهيوني أيّ من أهدافه في قطاع غزّة حتى الآن، حيث إن قدرات المقاومة العسكرية ما زالت موجودة، وتنج قيادتها بشكل طبيعي وتعمل بحرية، وأغلبية الأنفاق لم يتم تدميرها، ولا يزال نصف المحتجزين الإسرائيليين بالقطاع. بالتوازي مع تصاعد حدّة العمليات في الجبهة الشمالية مع المقاومة اللبنانية الذي أدّى إلى إفراغ المستوطنات الشمالية من سكانها، إضافة إلى إغلاق الجيش اليمني البحر الأحمر أمام الملاحة الإسرائيلية التي أدّت إلى تعطل ميناء أم الرشراش “إيلات” الذي أصبح البديل عن موانئ الاحتلال على البحر المتوسط.
وعلى الرغم من كل ذلك أعلن “نتنياهو” عن توسيع عمليات جيش الاحتلال العسكرية، وقصف عدد من المواقع في العاصمة اللبنانية بيروت، مايعني أن “نتنياهو” الذي يعاني من متلازمة الفشل يريد حرباً شاملة، على أمل القضاء على حركة المقاومة في لبنان وإعادة المُستوطنين النّازحين من الجليل هرباً من الصواريخ اللبنانية الذين يزيد عددهم الحقيقي عن 200 ألف مُستوطن حتّى الآن، وقد يتضاعف الرّقم إذا توسّعت الحرب.
ولعل أهم درس يمكن استخلاصه من ملحمة الطوفان هو إمكانية هزيمة الاحتلال في نهاية الأمر، وأن أي شعب له الحق المشروع في مقاومة المحتل، وسيكون النصر حليفه مهما بلغت قوة وجبروت هذا المحتل، فقد أثبتت المقاومة أنها قادرة على الانتصار في ظلّ الخلل الكبير في موازين القوى بينها وبين أعدائها، فأصبحت بندقية المقاومة قادرة أن تعكس مجرى التاريخ وأصبح العدو هو الذي يتراجع ويتخبّط حتى داخل مجتمعه.