“سقوط الجمرة الأخيرة”.. امرأة في زمن الحرب
أمينة عباس
بعد إبحارها في عالمي الشعر واللوحة كفنانة تشكيلية، وبعيداً عن قيودهما ارتادت الكاتبة رنا محمود عالم الرواية، مؤخراً، لفضائها الأوسع الذي يغريها لقول كلّ ما تريد من خلال روايتها الأولى “سقوط الجمرة الأخيرة” الصادرة عن “دار توتول” التي احتفى بها المركز الثقافي العربي في “أبو رمانة” عبر ندوة أدارها الإعلامي علي الراعي ومشاركة د. عاطف البطرس، والأديب أيمن الحسن.
وتصف رنا محمود جنس الرواية قائلة: “هي بحر متلاطم الأمواج، يمزج الخيال بالواقع، والمعرفي بالمُعاش، نعبّر فيه عن هواجسنا كأفراد ومجتمعات، ويغريني عمقه لأغوص أكثر في حياة الناس وتجاربهم وآلامهم وأحلامهم عبر رحلة إبداعية ممتعة تتطلّب شغفاً وخيالاً وصبراً، وقد تناولتُ في روايتي قصة تلامس الواقع لأسلط الضوء على حكايات أفراد يواجهون تحديات الحياة المعقدة الناتجة عمّا آلت إليه الحرب الضروس، وأتلمّس ما يعانيه الناس من مشكلات وهموم وخراب وتشتّت وأمراض نفسية، لقد أخذتني الرواية في نزهة من الخيال إلى عالم مضيء أجبرني على الاشتياق لغموض مرّ في ذهني بالمصادفة من دون أن أعي ذلك، وكانت البطلة فيها امرأة، فأنا لا أستطيع أن أكون بمعزل عن المكانة المتنامية للمرأة في الحياة واستجابة للوعي الأنثوي الذي عرف طوال التاريخ استبعاداً، ولا يمكن تجاهله اليوم مع مواجهة الواقع مع تأكيد ضرورة التحلي بثقافة الأمل العمود الأساس لثقافة الاستمرار والصبر على الشدائد والمحن لتحقيق الهدف”.
وكشاعرة تكتب الرواية تقول محمود: “القصيدة فواحة بالتحليق والصورة والخيال والرواية عابقة بالتفاصيل وذرات المشاعر الراكضة خلف الأحداث ومعالجة القضايا الكبيرة.. لقد اعتاد الشعر أن يكذب على قرّائه، لكن الحقيقة هي أن تفوّقه المُتفرّد صفة نوعيّة وليست عموميّة، وربّما لأجل ذلك يعلو مقام الرّواية بكلّ أشكال سردها، وهي تخترع لغة انتشارها العجيبة من دون إنكار أنه لا يمكنني التخلص من ذاتي الشاعرة في كتابة الرواية، فأنا امرأة تحاول العيش شعرياً وإبداعياً على الأرض، وأكتب الرواية من خلال النص الشعري، فما يملكه الشاعر من روعة الشاعرية يجعل الرواية أكثر بريقاً وسحراً”.
وبعد كتابة الرواية تدعو رنا محمود الروائية إلى: “حثّ القارئ على قابلية رؤية العالم، ليس من الخارج، لكن من خلال عيون الشخصيات التي تستوطنه بين المَشاهد الطويلة واللحظات الخاطفة والأفكار العامة والأحداث الخاصة، وهو أمر لا يمنحه لنا أي نوع أدبي آخر، فبينما يحدّق القارئ من بعيد إلى لوحة المشهد يجد نفسه فجأة وسط أفكار شخص ما”.
وعن الرواية يقول د. عاطف البطرس: “موضوع الرواية واضح وبيّن، وهو الحرب على سورية وما تركته من آثار على البشر وشخصيات الرواية، معتمدة بشكل واضح على العنصر السيَريّ والتجربة الحياتية للكاتبة التي اقتطعت منها ما رأته خادماً لبنيتها الروائية، فاقتحمت موضوعاً شديد الخطورة هو العلاقة بين المثقفين والفنانين، في حين سلكت مساراً آخر في الرواية هو مسار الحرب وتأثيرها على الناس، وهما مساران مختلفان في الشكل ومتفقان في التأثير، يندمج فيها بتوازن دقيق ما هو شخصي وما هو عام، حيث الحرب لم تؤثر على شخصيات الرواية وكاتبتها فحسب بل على الجميع، وهذا ما تفعله الحرب عادة”.
ويتوقف البطرس عند بنية الرواية انطلاقاً من إيمانه بأن الموضوع مهما كان لا يكون على درجة من الأهمية إن لم يكن مكتوباً بشكل فني: “أنبل القضايا إن لم تجد معادلها الفني تفقد كثيراً من بريقها لأن الرواية فن، والفنّ يعتمد على أدوات ومقاييس ومعايير معينة، لذلك فإن بنية هذه الرواية متماسكة تقوم على حبكة ونهاية موفقة ووصف جميل، خاصة لمدينة دمشق، ولغة جميلة كان التلوين فيها واضحاً، معتمدة على أسلوب الخطف خلفاً ضمن زمن متصل غير محدّد لحكاية رماح بطلة الرواية التي جاءت من اللاذقية إلى دمشق لتقابل أحمد الذي خذلها بعد ارتقائه في مناصبه، فتلتقي مصادفة بنساء كشفنَ عن سلوكياته السيئة وشخصيته الحقيقية، وقد أرادت الكاتبة من خلال ذلك الحديث عن بشاعة انتهازية بعض من يتقلّدون مناصب عليا، لتعود البطلة في النهاية إلى مدينتها من دون أن تلتقي به، وليكتشف القارئ بعد أحداث كثيرة وظهور شخصيات عديدة أن كل ما قرأه في الرواية لم يحدث وكان وليد مجرد تهيؤات كانت تعانيها البطلة”.
وينهي البطرس حديثه قائلاً: “الرواية تبشّر بولادة مشروع روائية، داعياً الكاتبة كشاعرة وفنانة تشكيلية وروائية إلى اختصار اهتماماتها الإبداعية حتى لا تتبعثر جهودها وهي القادرة على إتقان جنس واحد في الكتابة”.
وينطلق الكاتب أيمن الحسن في حديثه عن الرواية من عنوانها فيقول: “إن سقوط جمرة الرواية يوحي بالتحول من حالة البرد والجمود إلى حالة توثب وربيع أخضر، فهل جاءت هذه الجمرة عند رماح بطلة الرواية لتنقل من حالة الانزعاج الذي عاشته إلى مصالحة جميلة؟ وتبرز دلالة الجمر مع الإهداء حين تقول “إلى ذلك الصوت المدوي في رأسي الذي كلما تخامد أشعلته صرخات قلبي النازف، وإلى السالكين طريق الحب، المنتشين بلذّاته، وإلى المصابين بلعنته، الغارقة قلوبهم بسيل الشقاء، المصرّين على القبض على الجمر”، حيث تقول رماح “ليتحمل سخط قلبي عليه، فالمهمّ ألا أبقى خرساء لأن الخرس موت.. أنا ذاهبة إليه من دون موعد مسبق.. ترى كيف سيستقبلني؟ هل تكون مفاجأة سعيدة بالنسبة إليه؟ أم سيغضب لأنني لم أخبره؟ والسؤال الذي يلح على رأسي الآن: أأحمل إليه هدية رمزية بسيطة أم هدية ثمينة؟”.
تجري الأحداث في الرواية بدءاً من انتظار رماح للحافلة التي ستقلّها إلى محافظة أخرى لرؤية حبيبها، ويبيّن الحسن قائلاً: “الرواية مبنية وفق مخطط موضوع من الغاية التي انطلقت منها بطلة الرواية رماح وهي في طريقها إلى مقابلة الحبيب البعيد ومعاتبته عبر سرد تتوهج فيه العاطفة، وتتألق في صور إلى حين عودتها من حيث أتت إلى ابنها استجابة لنداء الأمومة، هذه القيمة العظيمة التي تسمو على أي شيء آخر في الحياة”.
ولا تغيب الحرب عن الرواية والتي أرخت بظلالها على قصص شخصيات الرواية.. يقول الحسن: “تضعنا الرواية في أجواء الحرب الظالمة على بلادنا، فخلال المسافة بين اللاذقية ودمشق تخبرنا الراوية سيَراً عدة، أكثرها أهمية سيرة مقاتل في الفصل المعنْوَن بـ”المعركة” إذ أنه لا يزال يعيش حوادث القتل حتى الآن من دون أن تنتهي، مع إشارتي إلى العتبات النصية المنشورة كمقدمات للفصول في الرواية والمعبأة بحِكَم جميلة وأقوال مأثورة تنمّ عن ثقافة مميزة للكاتبة، وإن كنتُ أرى أن كثرتها كانت زائدة، فلا يحتاج كل فصل من الفصول إليها، بالإضافة إلى وقفات الكاتبة التأملية التي كانت تبتدئ بها كلّ فصل من فصول الرواية، وهنا أتساءل هل يتسع صدر الرواية لمثل هذه الوقفات العديدة؟ أجيب أن صدر الرواية الرحب يتسع لمثل هذه الآراء والوقفات، على عكس القصة التي لا تحتمل ذلك”.
رافق عقدَ الندوة افتتاحُ معرض لرنا محمود ضمَّ مجموعة من اللوحات والمنحوتات بين خشب وحجر صناعي تناولت فيه موضوعات إنسانية عاطفية واجتماعية، وكانت المرأة المؤثرة القاسم المشترك بين أغلب موضوعاته، وفي رصيد رنا محمود دواوين شعرية هي “سرّ نبوءتي”، و”الأرض بعض ظلي”، و”حين ترسمني القصيدة”، و”الروناليزا”.