الحرب الكاشفة
د. خلف المفتاح
ثمة نتائج وحقائق عديدة أسفرت وكشفت عنها معركة طوفان الأقصى، وما تلاها من توسع لدائرة المواجهة، وفي مقدمة ذلك أن “إسرائيل” كيان قابل للهزيمة بدليل أنه لولا الدعم الذي وصل إلى مستوى المشاركة في المعارك لما تمكنت “إسرائيل” من الاستمرار بتلك المواجهة كل هذه الفترة الطويلة، وهي التي كانت تتحدث دائماً عن حروب خاطفة تنهيها لصالحها في عدة أيام أو أسابيع، بدليل أن ساستها يتحدثون عن أنها معركة وجود، وهذا يعني هشاشة بنية ذلك الكيان، وضعف حوامله ما جعله يستشرس في الرد في كل ساحات المواجهة في عملية قتل جماعي غير مسبوقة في تصور منه على أنه قادر على إسكات كل مصادر النيران في نقاطها المشتعلة.
والحقيقة الثانية التي كشفت عنها معركة طوفان الأقصى أن الذراع القوية والطويلة لم تعد فقط إسرائيلية، وإنما ثمة أذرع أخرى أصبحت طويلة وقوية، بدليل استهداف العدو من اليمن والعراق وإيران بمسافات زادت على آلاف الكيلومترات، الأمر الذي لم يكن في حسابات صانع القرار الاستراتيجي الإسرائيلي وتوقعاته.
والحقيقة الثالثة، كشفت معركة الطوفان عن البعد المركب والمكثف للصراع الذي حاول الإسرائيليون تاريخياً حصره في الدائرة الإسرائيلية الفلسطينية، وبوصفه نزاع وخلاف على حدود فظهرت الأبعاد الأخرى، وهي البعد القومي والإسلامي والدولي لجهة أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية وإسلامية، وجزء من حركات التحرر الوطني، بدليل وقوف دول من أمريكا وإفريقيا وآسيا إلى جانب الحق الفلسطيني، ومخاصمة الكيان أمام المحاكم الدولية سواء محكمة العدل الدولية، أو المحكمة الجنائية الدولية.
كما كشفت معركة الطوفان عن حجم التعاطف الدولي مع الشعب الفلسطيني، وقضيته بدليل خروج المظاهرات في أغلب دول العالم بما فيها أمريكا وأوروبا منددة بما تقوم به القوات الإسرائيلية المحتلة من إجرام ومجازر بحق الشعب الفلسطيني واللبناني، واستهداف للمدنيين والمؤسسات الطبية والصحية وغيرها، كما كشفت معركة الطوفان وما تلاها عن حقيقة أن الكيان الصهيوني هو الرأسمال الاستراتيجي للغرب بضفتيه، وأنه مشروع غربي استعماري هيمني لا تقف حدوده عند فلسطين، وإنما يستهدف تغيير الخارطة الإستراتيجية للشرق الأوسط، بما يخدم المصالح الأميركية وتقاطعاتها بدليل ما جاء على لسان بنيامين نتنياهو قبل عدة أيام من العدوان على لبنان، واغتيال سماحة السيد حسن نصر الله في عملية غادرة في الضاحية الجنوبية، وتقاطع تصريحات نتنياهو مع حديث وزير الخارجية الأميركية قبل يومين عن إستراتيجية أمريكية بمواجهة ما اسماه “الدول التحريفية”، حسب زعمه ويقصد بها كلاً من روسيا والصين وكوريا الديمقراطية وإيران .
والى جانب ما تمت الإشارة إليه، كشفت الحرب أيضاً عن قصور دور المنظمات الدولية بما فيها الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، وعدم قدرتها على تحقيق مضامين ميثاقها، وإيقاف العدوان الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين، واقتصار دورها على الشجب والتنديد أو الدعوة لتقديم المساعدات الإنسانية وكأنها هيئة اغاثية للكوارث، وليست مؤسسة معنية بالأمن والسلم الدوليين، وضبط إيقاع المعتدين، ما يعني انكشاف حالة ضعفها والحاجة إلى تغيير عميق في هيكليتها.
ولاشك أن مواقف بعض الدول العربية التي يفترض أنها معنية بالصراع، بل وهدف من أهداف المشروع الصهيوني، لم تكن في المستوى المطلوب حتى في الحدود الدنيا، لا بل إن مواقف بعض الدول خارج الدائرة العربية كانت متقدمة كثيراً على مواقف من يفترض أن يكونوا هم أصحاب القضية والمدافعين عنها، وهذا يطرح سؤال حول مدى شرعية هذه الأنظمة أخذاً في الاعتبار فرضية أنها تعبير عن إرادة شعبية في وجودها بالحكم حيث البون واسع بين مواقف الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وبين مواقف بعض تلك الحكومات التي لم تعبر عن نبض الشارع ووجدانه وضميره الجمعي .
الحقيقة الأخرى التي كشف عنها هي أن القضية الفلسطينية قضية تحرر وطني، وقضية حقوق شعب لا يمكن إنكارها وتهميشها، ولا يمكن أن يتحقق سلام في المنطقة إلا بسلام فلسطيني يعيد الحقوق لأصحابها الشرعيين والمتمثل بقيام دولة فلسطينية بحدود واضحة وسيادة كاملة وعاصمة تاريخية هي مدينة القدس، ولا مجال لما سمي السلام الاقتصادي أو صفقة القرن أو الاتحاد الإبراهيمي وغيرها من عناوين خادعة أن تلغي حقيقة أن هناك قضية فلسطينية وشعب فلسطيني له الحق في استعادة أرضه المغتصبة، وقيام دولته المستقلة، وكل ما عدا ذلك هو وهم وجري وراء سراب .