“عرق التين” تحليقة حرة في كتابة الرواية
أمينة عباس
بعيداً عن اللوحة والريشة والألوان، اختار الفنان التشكيلي محمود الجوابره الرواية بفضائها الأوسع، ليفضي من خلالها ذكرياته الكثيرة التي سطّرها عبر صفحاتها من دون أن ينسى أنه يكتب رواية لها متطلباتها، أو أنه فنان تشكيلي، فاستحضر شخصياته من هذا العالم الذي يعرفه ويعهده جيداً ومن عوالم أخرى قريبة منه، مع تأكيد أن الجمع بين أكثر من فن من الفنون ليس قراراً يتخذه المبدع، إنما هو جزء من ذاته وتكوينه يدفعه إليه ما يمتلكه من مواهب وخبرات وتجارب الحياة ورغبة في التعبير والبوح ليعبّر عما يريده بالشكل الأنسب.
يقول محمود الجوابره في حفل احتفائه بتجربته الروائية الأولى “عرق التين”: “لست كاتباً ولا روائياً، لكنني آثرت صوغ بعض من ذكرياتي فيها، فأخذت جوهرها وبنيت عليها من الخيال والإسقاطات، فكان هذا الكتاب البسيط الذي قد لا يكون رواية، إنما مجموعة نصوص، فالتسمية لا تهمّني، وما يهمّني هو أن هذه النصوص كتبت ورأت النور، حيث تختلط فيها الأحداث الحقيقية التي جرت في الجنوب السوري، مند سبعينيات القرن الماضي وحتى بدايات الألفية الثالثة مع الكثير من الخيال والإسقاطات، فلم تكن نسخاً عن الواقع، إنما البناء عليه، فصارت نصوصاً تلمح لما يشبه السيرة لمرحلة مهمّة من حياة المدينة الذاكرة، وهي تحتضن ثلاثة فنانين ومؤلفاً موسيقياً وشاعراً، عاشوا مثقلين بخيباتهم، وتركوا بصمات مهمة شكلت بدايات الحياة الثقافية في المنطقة”.
ولا يخفي الشاعر والمخرج المسرحي هشام كفارنة في تقديمه للرواية في الحفل الذي أقيم في صالة الرواق العربي أن “الجوابرة من دون استهلال، أو سابق إنذار يدخل عالم الكتابة عبر مذكراته الروائية بجرأة نادرة، مزوداً بفهم مغاير للبنى والمعايير المألوفة والركائز المعروفة والأشكال السائدة والصيغ البائدة، التقليدي منها والحديث، بما ينسجم مع طروحاته الدائمة عن ضرورة تحطيم كل القيود والأطر التي يشعر أنها تحدّ من الإبداع، ليقدم بضاعة نوعية خاصة به من دون تكلف أو ادعاء بحيث لم يجهد نفسه في البحث عن خصائص لها، بل إنه كتب بعيداً عن القسر قريباً من الحرية المطلقة، وانطلاقاً من العنوان في “عرق التين” يدوّخ المؤلف ويجعلنا ندوخ مع أبطاله الذين صوّرهم بشراً من لحم ودم، ويتميّزون بأفكارهم الفريدة المتمردة على منظومة القيم الاجتماعية والدينية فلا يتورعون عن تجاوز الخطوط الحمراء المعهودة والقيام بأنماط سلوكية إشكالية مُستهجَنة ملتمسين خلق فضاءات مختلفة للتحليق خلالها، مرتكبين أخطاءهم التي تشبه إلى حدّ كبير الزلات التراجيدية في بعض مفاصل حياتهم والتي قد تمضي بهم إلى الكارثة الدرامية، وتقودنا إلى الرثاء لحالهم واستنكار سلوكهم والرغبة الجامحة في إدانته أحياناً أخرى، فنرى الراوي منهمكاً ينبش في ذاكرته سيرهم بمبضع الجراح الذي لا يرحم، مسلطاً الضوء على الجوانب المستترة منها، وما إن تهبط إيقاعاتها ويعتريها بعض الفتور حتى نراه يلهب حيواتهم بخيال ثائر مجنح ينسجه من عندياته ليجعله يتسق مع أنماط سلوكهم بتفرداته سلباً وإيجاباً من دون أي انحياز لشركاء الدرب أو محاولة الدفاع عنهم لتفادي سقوطهم، بل يسهم مبالغاً في دفع شخصياته إلى مصائرها في الهاوية السحيقة ليسلط الضوء على الآثار والكدمات التي تركتها البيئة المحيطة بحلوها ومرها فيهم، وذلك ببساطة مدهشة في الحوار والأحداث الخاضعة لرؤيا الروي الاستثناء، والتي ربما تخصّ محمود وحده الفنان التشكيلي الذي لا يُحسب حساباً للمتلقي كثيراً، ولا يفكر بآليات التسويق بقدر ما يسعى إلى رسم وحفر هويته الخاصة بعناد حاد ودأب وجهاد وبلا هوادة، وفي هذه الرواية قد نختلف مع محمود وقد نتفق، لكن في الحالتين لا يسعنا إلا الوقوف مدهوشين أمام تصميمه الحازم وإرادته الحاسمة بترك بصمة في الكتابة مضافة إلى منجزه التشكيلي المهمّ لتكون روايته تحليقة حرة، حيث يبقى فن الكتابة كسائر الفنون الفضاء الرحب للإبداع في كل مكان وغير زمان”.
ويتفق الكاتب والروائي د. حسن حميد مع ما جاء على لسان هشام كفارنة فيقول: “الرواية مكتوبة ببساطة مذهلة لا يمكن تقليدها وبلغة تقترب من المذكرات والتوثيق والقريبة من السيرة الذاتية التي يضفي عليها شيئاً من الخيال، وهي تتمثل الحياة في منطقة نادرة في حضورها المكاني والاجتماعي والفني داخل مدونة الرواية السورية، فهي تتحدث عن جنوب سورية -درعا وريفها- ببساطته وتراثه، لكن من دون تقيّد الكاتب في روايته بالسياقات المعهودة والمألوفة عن البنية الروائية، ليقدم لوحات مختلفة من الحياة يتنقل بينها بسلاسة ولطف تختزن الكثير من الأشياء التي تميّز الفنان التشكيل، فيتحدث الكاتب فيها عن فنانين مهمومين بالحياة وظروفها، فلا يتركون موضوعاً إلا ويخوضون فيه، وبعض هذه الموضوعات يرتطم بما لا نحب، وأحياناً بما نحب، لكن ما هو واضح فيها أنها رواية تتحدث عن الناس وتجاربهم، محاولة رصد الفوارق في هذه التجارب ليقول لنا الكاتب إن الحياة هي هذه التجارب بتعدّدها وعبر شخصياتها المتعدّدة والتي كانت حاملاً تؤكد لنا الوحدة العضوية للمجتمع السوري بجمالياته وغناه بأطيافه”.
لكن ما الذي يميّز ما يكتبه الفنان التشكيلي؟ يجيب الناشر أ. سعيد البرغوثي مدير “دار كنعان للطباعة والنشر”: “حينما يكتب الفنان التشكيلي، يكتب بأدوات وأهداف مختلفة، والكاتب لهذه الرواية هو فنان تشكيلي معروف واتجه إلى الكتابة للتعبير من خلال نصوص قدّمها بطريقته، مبتعداً عن شروط الرواية التقليدية، ولهذا كنت أفضل أن يطلق على الكتاب اسم “ذكريات روائية”، ولا أخفي أنني كنت أتمنى أن أكون أحد شخصياتها وأنا أقرأ الرواية التي كانت تنوص بأحداث قاسية بالنسبة إلى القارئ”.
ويستطرد البرغوثي: “الكتابة مغامرة ومسؤولية والرواية الجيدة هي التي لا تذهب إلى التنظير، إنما إلى الحكاية والأحداث وتنهي بقفلة حراقة، فهذا ما يشدّ القارئ”.