كما بروسيا.. الغرب يغدر بإيران
هيفاء علي
تتلخص الرواية الغربية الوهمية للواقع الراهن في غزة ولبنان في أن إطلاق إيران 200 صاروخ باليستي -181 منها أصابت المواقع العسكرية الإسرائيلية- رداً على اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية واللبنانية قد “فشل”، إلا أن الحقيقة أظهرت قدرات إيران الدفاعية والهجومية باعتراف كبار المحلّلين الغربيين أنفسهم: “لا نستطيع أن نفهم كيف لا يستطيع أي شخص شاهد مقاطع الفيديو العديدة للضربات الصاروخية الإيرانية على “إسرائيل” أن يدرك ويعترف بأن هذا كان عرضاً مذهلاً للقدرات الإيرانية، حيث دمّرت الصواريخ الباليستية الإيرانية مواقع عسكرية أمريكية وإسرائيلية وضربت عدة أهداف عسكرية إسرائيلية برؤوس حربية كبيرة”.
فكيف ترفض الإدارة الأميركية مواجهة الحقيقة والاعتراف بما حدث، وتفضّل أن تطلب من العالم أجمع، الذي شاهد فيديوهات الصواريخ التي تسقط على “إسرائيل”، عدم الاكتراث كما نصحت السلطات بدعوى ذلك. ونظراً لعدم وجود ثقافة حقيقية خاصة بها، تعتبر الطبقة المهنية الغربية أن الدين عفا عليه الزمن، وأن التاريخ خطير لأنه يحتوي عناصر من المحتمل أن يساء استخدامها من قبل “المتطرفين، لذا فهي تفضّل عدم معرفة القصة، والنتيجة هي مزيج من القناعة بالتفوق، وانعدام الأمان العميق الذي يميّز زعماء الغرب، بالإضافة إلى الجهل والخوف من الأحداث والأفكار التي تقع خارج حدود روح العصر الصارمة التي يرونها، دائماً تقريباً، على أنها تتعارض بشكل جوهري مع مصالحهم، وبدلاً من السعي لمناقشة وفهم ما هو بعيد عن متناولهم، فإنهم يلجؤون إلى التشويه والتشهير للقضاء على الإزعاج.
وعليه، يبدو واضحاً للجميع أن إيران تندرج ضمن جميع الفئات التي تثير انعدام الأمن الغربي، فإيران هي قمة كل ما يثير القلق: فهي تتمتّع بثقافة عميقة وتراث فكري “مختلف” بشكل واضح من التقليد الغربي، لكن هذه الصفات تحيل إيران إلى فئة غير عاقلة، فئة الدول المعادية لإدارة “النظام الدولي”، ليس لأنها تشكل “تهديداً”، بل لأنها “تعطل” رسائل الانحياز.
وقد سعى الغرب إلى الحصول على ردّ صامت من إيران وضغط عليها، أولاً بعد قيام “إسرائيل” باغتيال جنرال إيراني ومساعديه في القنصلية الإيرانية في دمشق في شهر نيسان، وقد استجابت إيران لهذا الطلب، وأطلقت طائرات بدون طيار وصواريخ باتجاه “إسرائيل” في 13 نيسان الماضي بطريقة بعثت برسالة مختصرة ومنسقة (استباقية) عن قدراتها، دون الدعوة إلى حرب شاملة كما طالب الغرب.
وبعد اغتيال “إسرائيل” لإسماعيل هنية، ناشدت الدول الغربية إيران مرة أخرى الامتناع عن أي ردّ عسكري ضد ” إسرائيل”، وقد صرّح الرئيس الإيراني الجديد علناً أن المسؤولين الأوروبيين والأميركيين عرضوا على إيران رفع العقوبات الكبيرة المفروضة على الجمهورية الإيرانية، وضمان وقف إطلاق النار في غزة بشروط المقاومة الفلسطينية إذا لم تتعرض “إسرائيل” للهجوم. وبالفعل تماسكت إيران بهدف التوصل إلى وقف الحرب على غزة، ولكن لم يفِ الغرب بأي من الوعود، فقد واجهت إيران معضلة حقيقية: فقد كانت تأمل في اتباع سياسة ضبط النفس من أجل تجنّب حرب مدمرة، هذا هو جانب واحد من المعضلة، ولكن الجانب الآخر هو أن ضبط النفس هذا يمكن أن يساء تفسيره (ربما بشكل ضار) ويستخدم كذريعة للتصعيد.
ومرة أخرى، يضايق الغرب إيران ويهدّدها ضد أي إجراءات انتقامية ضد “إسرائيل”، لكن هذه المرة، شنّت إيران هجوماً صاروخياً باليستياً أكثر فعالية، وركزت على المواقع العسكرية والمعلومات الأساسية، لقد كانت باختصار إشارة توضيحية، على الرغم من تأثيرها في إلحاق الضرر بالقواعد الجوية والمواقع العسكرية والاستخباراتية، ومرة أخرى، كان هذا الردّ محدوداً.
والمغزى من القصة واضح: فقد تعرّض الرئيس بزشكيان “للخداع” من قبل الغرب، وهو ما يذكر بخداع الغرب المتعمد للرئيس بوتين بموجب اتفاق مينسك، فضلاً عن الطعنة في ظهر اتفاق إسطنبول الثاني. إن ضبط النفس الذي يصرّ عليه النظام الدولي يتمّ تقديمه دائماً على أنه “نقطة ضعف” و(الدولة الغربية العميقة) تتجنّب أي أساس أخلاقي، بل وتجعل من عدميته فضيلة. ولعلّ آخر زعيم قادر على ممارسة الدبلوماسية الحقيقية يتبادر إلى الذهن هو جون كنيدي خلال أزمة الصواريخ الكوبية، وفي تعاملاته اللاحقة مع القادة السوفييت، ولكنه قُتل على يد الدولة العميقة؟.
حقيقةً، تشير التقارير اللاحقة إلى أن الولايات المتحدة لديها معلومات تكنولوجية جديدة (لا تمتلكها إسرائيل) ساعدت في تحديد مكان سماحة السيد نصر الله وتمّ تقديمها “لإسرائيل”، مما أدى إلى اغتياله، وإذا أصرّ الغرب على التقليل من شأن ضبط النفس الإيراني إلى هذا الحدّ، فهل يصبح الطرف الأوروبي والأميركي الوحيد في النظام العالمي قادراً على الواقعية الباردة؟ وهل يمكنهم تقييم عواقب أي هجوم إسرائيلي محتمل ضد إيران بشكل صحيح؟.
إدارة بايدن أكثر من راغبة -بوضع البندقية على الطاولة- في أن يأخذها نتنياهو ويطلقها، بينما تتظاهر واشنطن بالابتعاد عن الفعل، والهدف النهائي لواشنطن هو بالطبع روسيا، ومن المفهوم أنه عندما يتعلّق الأمر بالدبلوماسية، لا يمكن الوثوق بالغرب. ومع ذلك، فإن المغزى من القصة له آثار أوسع، فكيف تتمكن روسيا، في مثل هذه الظروف، من إنهاء الصراع الأوكراني؟.