يزن أنزور في حوارٍ مفتوح مع جمهور السينما
حسن يوسف فخّور
دقائقٌ مرّتْ سريعةً، تنقّلتْ فيها مشاعر الحضور بين ضفتين من السينما القصيرة، الجماهيرية والنخبوية، وعَلَتْ فيها الضحكاتُ التي رافقتْ مشاهد فيلم “خلص الشحن” ذي الطابع الكوميدي، فيما تلاشتْ وضاعتْ مع ارتفاع هدير الرصاص في فيلم “جوري” النخبوي، أفضلُ فيلمٍ روائيٍ قصيرٍ في مهرجان الدار البيضاء عام إنتاجه.
العرض الذي شهد حضوراً متنوعاً بين فئات جمهوره، اختتمه المخرج السينمائي يزن أنزور بحوارٍ مفتوحٍ مع الحضور؛ إذ فتح باب النقد في جلسةٍ حواريةٍ على مسرح المركز الثقافي في المزة بإدارة الشاعر إبراهيم منصور، وبحضور عددٍ من الأدباء، وممثلي فيلمه الجماهيري.
نقاشٌ مطوّل استهله الكاتب والناقد السينمائي سامر منصور بانطباعه الأول عن الفيلمين، معداً اللغة السينمائية للفيلم الكوميدي ضعيفة، وهي أقرب للدراما التلفزيونية، ومفصحاً عن رأيه بكون الفيلم يصلح لوحةً في إحدى حلقات مسلسلٍ كوميدي، لكنّ أنزور رفع “فيتو” ثقافياً، موجهاً نقداً للنقد، ومؤكّداً أنّ اللغة السينمائية ورمزيتها واضحة، ومستهجناً فكرة احتكار الدراما للكوميديا دوناً عن السينما، ومستشهداً بتاريخ السينما المصرية “هوليوود الشرق” التي طرحت الكثير من القضايا وناصرتها من خلال السينما الجماهيرية الكوميدية التي برزت فيها نجومية عادل إمام، ومنوهاً بأنّه صنع هذا الفيلم للجمهور المحلي وليس للمشاركة بالمهرجانات السينمائية، ومعلقاً أنّ هذه العقلية هي التي دمرت السينما السورية.
وتناول عضو اتحاد الكتّاب العرب في معرض حديثه السويّة السينمائية المرتفعة للفيلم الذي حصد الجائزة الكبرى في مهرجان الدار البيضاء، والرمزية العالية التي تنقل الفيلم إلى “رتم” سينمائي أفضل من خلال رؤيته بأنّ “الفن هو تقديم الواقع بطريقة غير مألوفة”، مقارناً إياه بفيلم “خلص الشحن” الذي أكّد له أنزور أنه لو كان بنمط “جوري” ذاته لترك الجمهور صالات العرض في هذه الظروف التي يبحث فيها السوري عن ضحكةٍ تخدّر قلبه، وراح منصور في نقده إلى الموسيقا التصويرية الأوركسترالية، معداً إياها مبالغة بالفخامة مع كثرة الآلات التي تعزف موسيقا غربية في الوقت الذي يستعرض الفيلم الحرب في سورية، ومطالباً بوجود آلاتٍ شرقيةٍ كالقانون أو العود، مشيداً بتدخل الناي لاحقاً ليمنح المشاهد حالات الحزن التي كانت تطفو على ملامح المكان؛ الملاحظة التي دفعت المخرج للتأكيد مرةً أخرى أنّ الفيلم رسالةٌ يخاطب بها الخارج والغرب خاصةً بلغتهم التعبيرية، وانتقد منصور شعر الطفلة المصفف الأنيق، وكأنها خرجت للتو من صالون الحلاقة لا من الحرب، ما أفقده حالة التعاطف معها، لكنّ أنزور أصرّ على تصفيفة شعرها الأنيقة التي لم تمسّها الحرب، لأنه أراد لها أن تبقى كوردةٍ جوريةٍ وسط الخراب والدمار.
وأكّد الشاعر إبراهيم منصور أهمية الاختلاف والنقد كحالةٍ ثقافيةٍ صحيّةٍ، مشيراً إلى ضرورة التفريق بين النقد العلمي والذوق الفني الشخصي من دون أن يغلب أحدهما على الآخر.
“ظروف الإنتاج السينمائي في البلاد اليوم سيئة، ومحكومة بمساراتٍ معينة”، بهذه الكلمات أفصح الباحث والشاعر الدكتور بكور عاروب عن إعجابه بمحاولة المخرجين الشباب إصلاح واقع السينما المحلي، قائلاً: “نحن استطعنا أن ننتج فن دراما اللوحة والتي كانت انتقالاً هائلاً في عالم التلفزيون إلى السينمائية، لكن للأسف بدل أن ننجح، ونتقدم فيها فشلنا، وعدنا إلى الخطوات الأولى”، ومن زاويته الخاصة ارتأى أن الموسيقا التصويرية في فيلم “جوري” كانت الأفضل في ظل الإمكانيات المتاحة، مستمتعاً بمعالجة الواقع في الفيلم الكوميدي الذي استطاع الحفاظ على سويته الاحترافية من دون السقوط في فخ التهريج، ومحذّراً من حملةٍ عالميةٍ تهدف إلى التجويع والتجهيل، ومستشهداً برمزية مشاهد الطفلة وهي ترمي المال والسلاح وتأخذ قارورة المياه، وموجهاً رسالته إلى الشباب: “العمق اليوم مرفوض، لا تنتظر من أحد أن يفرش لك السجادة الحمراء، ويدعمك لتصنع فيلماً عميقاً، نحن في عصر التفاهة، الجهود الطبية وحدها من تصنع فناً ملتزماً ومحترماً”.
فيلم “جوري” استعرض مشاهد من الحرب السورية وآثارها، فهل كانت الفيلم وثائقياً؟ السؤال الذي طرحه أحد الحضور، أغناه الباحث طارق العُريفي أستاذ النقد الحديث في كلية الآداب بجامعة دمشق بمداخلته؛ إذ أكّد أنّ الفيلم غارقٌ بالرمزية، فالورود التي أغلقت بهم الطفلة ثقوب الرصاص التي تُدخِل الريح الخارجية المؤذية إلى البيت الذي يتمثل بالوطن هي ترجمةٌ لأسلوب الحضارة السورية في الردّ على ثقافة الموت بالحب والإصرار على الحياة، وبالبحث داخل الحقيبة التي وجدتها الطفلة شارك الدكتور العُريفي أنزور خياله بسؤالٍ عن ماذا يجب أن ترمي الطفلة خارج الحقيبة من الأشياء التي كانت سبباً في دمار بلادنا، علا تصفيق الحضور مع سرعة بديهة المخرج بالفتنة التي انتقاها جواباً، والتي كانت من الممكن أن تتمثل بكتابٍ معين أو شعارٍ ما.
خرجت إحدى الحضور عن نقد الأفلام، وراحت تغرد خارج سرب الجمهور؛ إذ سألت المخرج يزن أنزور عمّا إذا كانت ظاهرة المخرج المؤلف تخدم السينما أم تضرها؟ متناولةً فكرة الشللية التي أعاقت دخولها الوسط الفني! “أنا مع الاحترافية أينما وُجِدت” بهذه الثقة تناول أنزور المشكلة من زواياها المختلفة؛ إذ أكّد أنه يفضّل حصر دوره في الإخراج فقط، لكنّ ضعف الميزانية يفرض عليه تنفيذ مهنٍ أخرى عدّة اضطر إلى تعلمها؛ لكي يُخرج الفيلم بالسوية الاحترافية التي ترضي طموحه. أما بالنسبة إلى الكتّاب؛ فاشتكى أنزور من عدم إدراك الكثير من الكتّاب للعملية الإنتاجية من مواقع التصوير والديكور وغيره من الحلول الدرامية، مؤكداً أنه يتمنى أن يأتيه سيناريو جاهز للتصوير، أو أن تمتلك السينما لدينا ميزانية تؤهله لإنتاج أفلامٍ طويلةٍ نوعيةٍ، منوهاً بأنّ ما ينقصنا عن هوليوود رأس المال، وعن الشللية تهكّم قائلاً: “أنا من أكثر الناس التي تعاني الشللية في الوسط الفني”.
وفي حديث خاص مع المخرج يزن أنزور، تحدث عن سبب اختياره الفيلمين المختلفين للعرض على مسرح المركز الثقافي، متأسفاً على أننا لا نملك شباك تذاكر يدعم السينما، إذ نركز في إنتاجنا على أفلام المهرجانات، الأمر الذي دفعه إلى صناعة فيلمٍ جماهيري يجذب الناس إلى صالات السينما وعرضه إلى جانب فيلم جوري النخبوي كرسالةٍ واضحة للعالم بأن شهداء سورية وفلسطين ولبنان ليسوا مجرد أرقامٍ بل حكاياتٍ إنسانيةٍ مختلفة.
وعن صعوبة إعادة الجمهور إلى صالات السينما، باعتقاد أنزور أننا بحاجةٍ إلى أفلام جماهيرية تجذب الناس للعرض ثم يعتاد الجمهور الحضور، وهذا يحتاج إلى شركات إنتاج تغامر بإعادة السوريين إلى السينما كما كان حضورنا سابقاً ينافس السينما المصرية، متحسراً على تدهور واقع الدراما السورية وابتعادها عن القضايا العميقة التي اشتهرت فيها الاجتماعية منها والوطنية، نتيجة ارتباط رأس المال بالخارج.
“على موج” هو الفيلم الذي يحضّره المخرج السينمائي يزن أنزور حالياً، متناولاً فيه الزلزال من زاويةٍ مختلفة ومن رؤيةٍ أعمق تقرأ تأثيره على كسر العزلة عن سورية، بالإضافةً إلى سلسلة “قصص من غزة” وهي خمسة أفلام مهداة إلى غزة، كما يعتزم دخول الدراما بعملٍ يحمل القيم التي حملتها الدراما السورية في فترتها الذهبية، ولا يمكن تجاهل عينيّ المخرج وهو يشاهد أفلامه مع جمهوره، متنقلاً بين دمعة الألم ولمعة الفخر اللتين اختلطتا في عينيه، وانعكست على ملامحه.