ثقافةصحيفة البعث

واقعية الحكاية والسرد في روايتي عائشة قسوم

عمر محمد جمعة

بعد روايتها الأولى “إيقاعات متمردة” الصادرة عن “دار بعل” 2020، والتي استدعت فيها شخصيات نسائية تعرّضت للظلم والقهر أثناء الحرب، تستكملُ الأديبة عائشة قسوم اليوم مدوّنتها السردية التي تقارب في الأغلب الأعمّ من خطابها وموضوعها عوالم المرأة المكشوفة أو المستترة، سواء تلك التي واجهت ظروفاً اجتماعية صعبة حاصرت أحلامها وحدّت من جموحها، أم هذه التي تحدّت الحرب ووقائعها وأحداثها العاصفة، وتغلّبت عليها في سبيل تحقيق ذاتها والحفاظ على شخصيتها، وذلك في روايتيها “ذاكرة بيضاء” و”حنين القصب” اللتين صدرتا، مؤخراً، عن “دار توتول” في دمشق.

ولئن شكّل الحب رافعة جمالية في النتاج الروائي ضمن حكايات متباينة في تأثيرها القريب أو البعيد، فإنه سيتحوّل لدى الأديبة عائشة قسوم إلى متن سردي مركزي، تدور حوله بقية الحكايات بمساراتها ومآلاتها ونهاياتها التي تفاجئ القارئ أو المتلقي، ففي “ذاكرة بيضاء” تجمع قصة حب الشابة “شروق” الطالبة في كلية التربية وزميلها “خالد” عازف الغيتار الذي يدرس الهندسة الزراعية، ويواجهان معاً لعنة رفض أهله لهذه العلاقة التي كانت ستنتهي بالزواج لولا تواطؤ أبناء عمومته في خطف الحبيبة “شروق” لدفعه إلى الزواج من ابنه عمه فوزية قسراً، لتسير الأحداث وفق منحى تصاعدي في صراع العاشقين مع منظومة العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية التي باتت أكثر ضيقاً مع اندلاع الحرب في سورية، فـ”شروق” التي تتوق لأن تفقد ذاكرتها وترهقها الكآبة والسجائر والذكريات والأحلام تنتهي بالزواج من الضابط الخلوق “وسيم” الذي يستشهد في إحدى المعارك لتلحقه وتموت قهراً بعد أن أودعت ابنهما “علاء” كلّ أمنياتها وأحلامها المشتهاة، فيما يختفي “خالد” ويظهر مرة أخرى عندما تخطف مجموعة مسلحة “شروق” زوجة الضابط ويكون هو قائد هذه المجموعة، ليصحو ضميره فجأة بصدمة عشق الماضي ويساعد في الإفراج عن حبه الأول.

أما في “حنين القصب” فتسير الكاتبة وفق النهج ذاته وثيمة الحب نفسها، وذلك في حكاية العشق التي تجمع ابني القرية الواحدة، “روز” الغنية الميسورة و”سعد” الفقير، وتنتهي بعد إكمال دراستهما العليا ونيل “روز” الدكتوراة في الكيمياء بالزواج وسفرهما رغماً عن إرادة الأهل إلى إحدى الدول التي تستثمر خبرات واكتشافات الباحثة الحالمة الطموحة وتسخّرها للإنجازات العلمية التي تخدم تلك الدولة، وحين تخطط للعودة إلى بلادها تُخطف لإجبارها على البقاء وعدم الكشف عن المنجزات العلمية التي قدّمتها.

لقد اتفق كثيرٌ من النقاد ومؤرّخي الأدب وتواضعوا على أن السرد هو التتابع والتسلسل الذي يظهر عند الراوي أو السارد، من خلال تحويل مجموعة من الأحداث، والأزمنة، والأماكن، إلى مدونة منتظمة تُعبّر بشكل واضح وصريح عن واقع يمكن معايشته وتخيله، له أشكال عدة تختلف باختلاف الزمن، وله أهمية كبيرة في إثارة التشويق لدى المتلقي وتحقيق الهدف في إيصال الفكرة من الكتابة، وهو الأساس في ظهور الحكاية في الأدب.

وعلى هذا وفي قراءة عجلى يمكن القول: إن واقعية الحكايات التي لجأت إليها الكاتبة عائشة قسوم في كلتا الروايتين، فرضت واقعية سردية موازية في الرواية الأولى، وواقعية ممزوجة بشعرية سردية في الثانية وقد تحرّرت فيها قليلاً من وطأة السرد الواقعي، وذلك كله في لغة مشدودة وأحداث متواشجة متصاعدة وشخصيات برعت كثيراً في رسم معالمها الخارجية ورصد تحولاتها النفسية والعاطفية، ولاسيما في مواجهتها منظومة العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية المتحولة، إن كان نتيجة الحرب أو الأعراف التي تحكمنا وينبغي علينا أن نتحداها.

تقول “شروق” في رواية “ذاكرة بيضاء”: “الذاكرة بيضاء، لا تحمل سوى الحبّ والفرح، إنني الآن هنا في أوج جمالي وعافيتي، وأنا من سجنتُ نفسي في هذا القفص اللعين بعد كلّ ما مرّ معي من خيبة وانكسار، عندما أنظر إلى مرآتي أرى جمالي، فأعلم أنني ما زلت على قيد الحياة، أضحك من أعماقي، فأنا أستحق الحياة بكل معانيها، صوت فيروز يحرك مشاعري، وفنجان قهوتي يأخذني إلى عالم آخر من دون وصاية أو رقيب”.

ويبدو أن هذا الأسلوب التقليدي والنمط الكلاسيكي الذي اتبعته الكاتبة في بناء الرواية فنياً سيغدو مفهوماً ومبرراً، ولاسيما أنها ما زالت، على الرغم من صدور ثلاث روايات لها، في طور التجريب والبحث عن هوية تنأى فيها وتختلف عن السائد والمألوف في الرواية السورية، ونزعم أنها نجحت في ذلك إلى حدّ بعيد.

يُذكر أن الأديبة عائشة إبراهيم قسوم ابنة مدينة حمص، درست الموسيقا، وعملت لسنوات مدرّسة لها، ونفّذت أنشطة موسيقية وبيانات فنية في منظمة طلائع البعث، شاركت في ندوات أدبية عدة وعملت مع “اليونيسيف” في ورشات دعم النساء والأطفال ضحايا الحرب، وهي تكتب إلى جانب الرواية الشعر والقصة القصيرة الساخرة.