ثقافةصحيفة البعث

صقر عليشي.. الريفي الذي لم يركن للمألوف

أمينة عباس

اختارت وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب – معرض الكتاب السوري المقام، حالياً، في مكتبة الأسد لتحتفي بتجربة الشاعر صقر عليشي وصدور أعماله الشعرية الكاملة بعد اختياره، مؤخراً، من قِبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “الألكسو” شاعر الدورة العاشرة لليوم العالمي للشعر للعام 2024، وذلك من خلال الندوة التي أقامتها في المكتبة،

يقول د. محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتّاب العرب: “لم يأخذ صقر عليشي المكان الواجب أن يحتلّه، لكنه اليوم بدأ يأخذ شيئاً من حقّه، وإن كان متأخّراً على المستوى السوري والعربي والعالمي، فهو شاعر كبير ومختلف وعلامة فارقة في المشهد الشعري وعموم المشهد الثقافي والأدبي والإبداعي ليس على مستوى سورية فحسب، إنّما على مستوى الوطن العربي، وهو ينتمي انتماءً حقيقياً إلى الأرض والبيئة، وقد استطاع المحافظة على هويته بكل تفاصيلها المكانية، ومن هنا تنبع خصوصيته ليكون بحق شاعراً مختلفاً”.
وعلى الرغم من تباين وجهات نظر مدير الندوة د. عاطف البطرس والشاعر صقر عليشي حول الشعر والنقد والفكر، لكن الصداقة ظلت تربطهما لأن مرجعيتهما الفكرية واحدة، يقول عاطف البطرس: “كانت هذه العلاقة أنموذجاً للعلاقة بين المثقفين التي يجب أن يكون عمادها الإنسانية، وطرفها شاعر لم يركن للمألوف فتخطى سلطة النموذج ولم يرضخ لتأليه الشكل ولم يخضع لسلطة ما هو شائع في سبعينيات القرن الماضي، متجاوزاً ما اعتاد عليه كتّاب القصيدة على صعيد البنية والموضوعات، فكان من طلائع المجدّدين في التجربة الشعرية وهو الريفي المعتز بريفيته وطفولته التي حافظ عليها وصاغها بحكمة الشيوخ في شعره الذي أحبه وأخلص له”.
خاض المشاركون بالندوة في تجربة عليشي الشعرية وتوقفوا ملياً عند السمات العامة الناظمة للتجربة الشعرية المتفردة له. يقول د. سعد الدين كليب: “اللطافة هي الأكثر حضوراً في شعره، حيث إن الجمال اللطيف هو ما يسعى إليه الشاعر الذي يتكئ على المشاعر والانفعالات الهادئة السلسة، بعيداً عن الانفعالات المأزومة، وهذا ينسجم تماماً مع القيمة الجمالية التي يبلورها في مجمل شعره الذي لا يكلف قارئه الكثير من الجهد، حيث يعرض عليه لوحة من لوحاته الشعرية ويقول له: “تأمل واستمتع ببساطة” تماماً كما تعرض علينا الطبيعة مشاهدَها وهي التي كانت، ولاسيما الريفية الجبلية، واحدة من الأقانيم الأساسية فيه إلى جانب ما يحمله شعره من متعة وبهجة وفكاهة بما هو بسيط وعفوي وجميل، بعيداً عن مشاعر الحزن والإحباط والتشاؤم التي وإن تلامحت أطيافها في شعره فلا تطبع القصيدة بطابعها، ولا تغيّر في منحاها الشعوري الإيجابي العام”.
وحول الشكل الجمالي الغنائي البسيط الذي يعتمده عليشي يضيف كليب: “لم يغادر الشاعر شكله الغنائي، ولم يجرب أي شكل من الأشكال الدرامية أو الملحمية السردية ولم يقترب من التراسل بين الأجناس الأدبية والفنية إلا ما جاء منه من دون قصد، فهو قلّما مالَ إلى النصوص المطولة التي تفترض بالضرورة التخفيف من الغنائية والميل إلى التعدد في المشاعر والمواقف والحالات الإنسانية، وهو ما لا يأتلف مع النزوع الغنائي الصرف لدى عليشي الذي لا يغريه توسيع رقعة المواقف والمشاعر في قصيدته ويكتفي فيها بالتعبير بعمق عن شعور أو عاطفة معينة، أما التحولات الشعرية التي حدثت في تجربة عليشي في الشكل والوظيفة الجمالية فلم تكن نتاج النزعة التجريبية بل من امتلاك الأدوات الفنية وتقدم الخبرة والمهارة، ليبقى التجريب الأكثر أهمية الذي لا يفتأ يحاوله على الدوام هو التجريب في ممكنات البساطة الشعرية وطرائق الوصول فيها”.

إذا كان أعلام الأدب والسياسة والفن يكتبون سيرهم الذاتية نثراً، فهل يكتب الشعراء سيَر ذواتهم شعراً؟ سؤال يطرحه د. وائل بركات في بداية مشاركته ليجيب: “نعم، يستطيعون، لكن لا يطرقها معظم الشعراء، فقلة منهم قادرة على قول تاريخ الذات وإبراز الأنا بصوغ شعري يعتمد على التكثيف والمجاز ودقة العبارة، وقد فعلها عليشي مبكراً، وتحديداً مع ديوانه “أعالي الحنين” الذي خصّصه لسيرته الذاتية ولوَّنه بحكايات ريفية وأخبرَنا ببساطة لغته الشعرية المعروفة وعمق دلالاتها المعهودة عن مراحل حياته منذ الطفولة واليفاعة إلى الشباب والنضوج، وقد وضع قريته عين الكروم البقعة الجغرافية الريفية الساحرة بين يدي القارئ شعراً ليضفي على سيرته الذاتية وروعة بيئته الطبيعية شحنات جمالية ودلالات إيحائية وخيالات إبداعية هي من أساسيات النص الشعري، على عكس ما توصف به السيرة الذاتية بأنها أحداث واقعية فقط وليست متخيلة كما في الشعر، فكانت قصائد الديوان لوحات حكائية تسرد بإيجاز دالّ وتصوغ بعبارة شعرية المراحل المفصلية التي أراد الشاعر اطلاعنا عليها، لأنه بالمجمل لم يخطّ سيرته الذاتية الشخصية بالدرجة الأولى، إنما جاءت ثانياً حين اعتنى بمحيطها مع الأهل وفي البيت والقرية، ليشرف بنظرة بانورامية شاملة على الماضي وعلى المحيط الذي عاش فيه، وكان له الفضل في تأسيسه الحياتي والمعرفي، وقد ظلّت قريته عين الكروم بعد مغادرته لها سكناً وعشقاً في قلبه لا ينتهي ولا يذبل إلى يومه هذا”.
ولا يتخطّى بركات في حديثه عن ديوان “أعالي الحنين” ما غاب عن مكوّنات السيرة الذاتية فيه، فيقول: “هي استثناءات قليلة تتعلق بأسماء الأشخاص في العائلة ومن الجيران التي كان حضورها سيزيد موثوقية النص، كما تجاهلت السيرة مرحلة الدراسة في المدينة وانخراط الأنا في الحياة العملية والعلاقات الاجتماعية وغيرها، لكن مع هذا كان الديوان بارعاً في التقاط الأشياء البسيطة العادية وتحويلها إلى رؤية كلية بصياغات شعرية بارعة أنيقة وبسيطة، لكنها مُترفة بالعمق وبمستويات التنوع الدلالي المشغول بحرفية عالية”.

وفي حديثه عن الشاعر عليشي الذي يشكّل ضمن جيله علامة واضحة للشعر في سورية والعرب عامة، يقول الأديب بيان الصفدي في مشاركته: “عرفت فترة الستينيات تيار الرؤية الوجودية للحياة ثم تعدّدت التسميات بتعدّد التيارات والموجات التي ظهرت في السبعينيات والتي ذهبت باتجاه الحياة اليومية، فانعطف الشاعر صقر عليشي انعطافة واضحة في شعره وتميّز بتأمّل الحياة بشفافية الطفل القروي المبدع الدافئ من خلال تقديم عالم بعيد عن البرود ونابض بالحياة في نصوصه، فكانت تجربته منذ البداية غنية ومديدة ومتميزة بين شعراء جيل السبعينيات حين استطاع التأسيس لقصيدة شفافة وذكية وسريعة الدخول إلى القلوب بعوالمها الريفية البسيط وإبداعه في قصيدة الحب ولغته الحاملة للمتعة من حيث احتوائها على مجموعة مكونات في نسيجها كالصورة والحوار والسخرية والأشياء البسيطة والخاتمة المفاجئة والمدهشة للقارئ، لذلك هو صاحب بصمة خاصة في الشعر السوري ومن شعراء العرب المرموقين”.