بين اليسار واليمين.. فرنسا تفقد وزنها السياسي
ريا خوري
استمر الزلزال في فرنسا بعد الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وما خلّفه لجهة حلّ الجمعية الوطنية في الجمهورية الفرنسية. هذا الزلزال أدّى إلى إثارة هزات وارتدادات عنيفة على الساحة السياسية الفرنسية، وذلك قبل موعد الانتخابات التشريعية المبكَّرة التي أثّرت على وجهة فرنسا الدبلوماسية.
بعد خسارة معسكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقب الانتخابات الأوروبية، حاول تقديم الانتخابات في الثلاثين من حزيران الماضي، والسابع من شهر تموز الماضي على أنها (خيار المجتمع) بين الكتلة التقدمية التي سيجسّدها والمتطرفين في اليسار واليمين الذين يغذون الفرقة والانقسام، وفق ما صرّح به رئيس الوزراء السابق غابرييل أتال، كما أكّد أنّ فرنسا تمرُّ بلحظةٍ صعبة، وعلى الحكومة إقناع الفرنسيين بذلك.
ومنذ الانتصار الانتخابي الساحق الذي حقّقه التجمع الوطني بتصدره التصويت مع 31،3% من نسبة الأصوات، وقرار حلّ الجمعية الوطنية الذي اتخذه الرئيس ماكرون، تتسارع عملية إعادة التركيبة السياسية في فرنسا والتي تحولت إلى فوضى سياسية عارمة.
من الواضح أنَّ خطوة حل الجمعية الوطنية لم يكن لها أي تأثير إيجابي على شعبية الرئيس ماكرون وحزبه، فقد قال نحو 24% فقط من الفرنسيين إنهم يثقون بالرئيس ماكرون، وهو أدنى مستوى منذ بداية ولايته الثانية عام 2022، في قيادة فرنسا.
وكانت نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة قد كشفت عن مدى عمق الأزمة السياسية التي تواجه فرنسا، وإلى أي مدى أضحى خلل التوازن الحزبي في علاقات القوى السياسية المختلفة قوياً لدرجة باتت تهدّد الاستقرار السياسي في عموم فرنسا، خاصةً وأنّ القرار السياسي قد انتقل إلى الجمعية الوطنية (البرلمان) من قصر الاليزيه (الرئاسة الفرنسية) ليؤكد أنّ نتائج الانتخابات قد كشفت ضعف الرئيس ماكرون، وأنه لم يعد صاحب القرار السياسي الفعلي في النظام السياسي الرئاسي في فرنسا، لذا فإنَّ الجمعية الوطنية تواجه خللاً كبيراً وانقساماً حاداً بين الكتل السياسية الثلاث التي لم تتمكّن أغلبيتها من تشكيل الحكومة برئاسة ميشال بارنييه الذي كلفه بها الرئيس الفرنسي ماكرون في الخامس من شهر أيلول الماضي، مع أنَّ بارنييه المنتمي لحزب الجمهوريين اليميني المتطرف هو الذي يسعى لتشكيل الحكومة الجديدة، آملاً أن ينجح في إخراج فرنسا من المأزق السياسي الذي تعاني منه، والحفاظ قدر الإمكان على استمراريتها أمام أي دعوة لحجب الثقة عنها.
لا شكّ أن ماكرون يعيش أسوأ أزماته وإخفاقاته، بل ربما تكون أزمته التاريخية نتيجه لفشله الذريع في أن يحافظ على تماسك ووحدة حزبه، وأن يجد حلولاً عملية وجادة لصراعاته الداخلية وأزماته المتفاقمة.
لقد عبّرت قيادات اليسار الفرنسي عن سخطها الشديد، ورفضها لما قام به الرئيس ماكرون من تعيين ميشال بارنييه رئيساً للحكومة الفرنسية الجديدة كونه تجاوز الأعراف والنظم السياسية التقليدية الفرنسية، وأنَّ الخلاف الجاري بين تلك القوى والرئيس ماكرون جاء على تسمية مرشح لرئاسة الحكومة خارج الإطار التوافقي، فهي لم تتوافق أيضاً على ردود فعلها الحادة والصارمة لمواجهة رئيس الجمهورية، حيث كشفت التنافسات الداخلية الساخنة عن ميول للحزب الاشتراكي وزعيمه أوليفيه فور التقارب مع الرئيس ماكرون وعن عداء للأحزاب الثلاثة: الحزب الشيوعي، والحزب الاشتراكي، وحزب الخضر للمشروع السياسي لحزب فرنسا الأبية، ورفض تثبيت وتمكين جان لوك ميلونشون زعيم هذا الحزب من تحقيق طموحه التاريخي في تولي رئاسة الحكومة الفرنسية الجديدة، أو حتى تمكينه من تسمية مرشح آخر من جانبه لتولي هذا المنصب على الرغم من أنه صاحب الكتلة الأكبر من النواب داخل جبهة اليسار.
وعبّرت مارين تونديلييه، زعيمة حزب الخضر، والشريك في جبهة اليسار، عن أسباب الانقسام الحاد داخل الجبهة بقولها إن جميع الأحزاب والقوى السياسية في فرنسا يزعمون أنهم المجموعة الكبرى. فقد واجهت تونديلييه تحدياً كبيراً للحيلولة دون انهيار الائتلاف اليساري بعد انتصار ساحق غير متوقع حقّقه في الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث لعبت دوراً ومحورياً وأساسياً في توحيد الأحزاب والقوى السياسية اليسارية عبر تشكيل الجبهة الشعبية الجديدة.
أمام هذه الحال من التهاوي والضعف والعجز وعدم التوافق داخل جبهة اليسار، قرَّر حزب فرنسا الأبية، وزعيمه جان لوك ميلانشون، العودة مجدداً للاحتكام للشارع الفرنسي الذي يتهم جزء كبير منه الرئيس ماكرون بخيانة الإرادة الشعبية وتجاوزها، وتسيير تظاهرات ومسيرات حاشدة غاضبة في معظم أنحاء فرنسا للاحتجاج على تعيين بارنييه رئيساً للحكومة.
ولعلّ الإجراء الأهم كان الدعوة لعزل ماكرون من منصبه كرئيس للجمهورية، ما يعني أن ما جرى ويجري يعبّر عن الفوضى والفشل الذريع لإدارة ماكرون في العمل السياسي وبنية النظام السياسي الفرنسي.