“الديمقراطية بالمعايير”… بناء الوعيّ بالجدارة السياسية في المجتمع
الدكتور سومر منير صالح
ترتبط مسألة التقدم والتأخر التاريخيّ، بثقافة المجتمع، فبقدر ما تحتوي هذه الثقافة على قيمٍ داعمة للنهوض، يتحقق التقدم، والعكس صحيح، وهنا نلاحظ أنّ المجتمع نفسه يمرّ بفترات نهوضٍ وتأخرٍ متعاقبةً تاريخياً، وغالباً ما يكون السبب تغييرٌ أصاب نظام القيم الثقافية المحددة للسلوك المجتمعي، وبالسياق ذاته لا يتحقق النهوض إلّا إذا استطاع المجتمع بناء سلطةٍ قادرةٍ على إحداث التغيير، ومتمكنةٌ من استدامته، من خلال شرطين لازمين: كفاءاتٍ رصينةٍ متمكنةٍ من معارفها، ومؤسساتٍ مستقرةٍ ومرنةٍ في أنظمتها الإدارية، وعند اكتمال هذه العناصر السياسية والبشرية مع الإدارة الرشيقة، تكتمل عناصر الجدارة السياسية التي هي نظامٌ سياسيٌّ يسند فيه المجتمع السلطة (المهمة والتمثيل) السياسيّ للأفراد بناءً على القدرة والموهبة المقاسة بالأداء، وليس الثروة أو الطبقة الاجتماعية، ظهر مفهوماً مع الحضارة الصينية في القرن السادس قبل الميلاد تحديداً (أسرتي تشين و هان)، واستخدمه كونفوشيوس وارتبط به، كمفهوم يوفر إرشاداتٍ محددةً بشأن الكيفية التي ينبغي للحكام أن يحكموا بها، واقتصر المفهوم على الفضيلة، والمؤسسية.
إنّ أول استخدام حديثٍ للمصطلح كان من عالم الاجتماع آلان فوكس عام 1956، باعتبارها شكلٌ خبيث من أشكال التنظيم الاجتماعي من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة والطبقية الاجتماعية على أساس “الوضع المهني”، ثم تم ترويجه من عالم الاجتماع مايكل دنلوب يونج، الذي استخدم المصطلح في كتابه السياسي الساخر صعود الجدارة عام 1958، وسخر من “النظام الثلاثي” للتعليم الذي سيعكس الطبقة الاجتماعية في نهاية المطاف، بعدها خرج المصطلح من الإطار النقدي الساخر لكلٍّ من (يونج وفوكس) ليدخل راهناً بقوةٍ ومنهجيةٍ إلى حقل الاجتماع السياسيّ المعاصر، ففي كتابه “أرستقراطية الموهبة: كيف صنعت الجدارة العالم الحديث (2021)”، قدم المؤلف البريطاني أدريان وولدريدج، الجدارة كنظامٍ لتمكين الناس من التقدم في الحياة على أساس مواهبهم الطبيعية، وتأمين تكافؤ الفرص من خلال توفير التعليم للجميع، ومنع التمييز في الوظائف وتشجيع منحها من خلال المنافسة المفتوحة بدلاً من المحسوبية، ونرى هنا تداخلاً موضوعياً بين الجدارة السياسية والإدارية باعتبارهما مساران متلازمان، وعليه غالباً ما يستخدم مفهوم الجدارة للإشارة إلى الأنظمة الاجتماعية التي تبرز قدرات الفرد ومزاياه، وتحقق العدالة الاجتماعية المبنية على تكافؤ الفرص.
هنا يبرز السؤال الموضوعي المعقّد وهو: كيف يمكن للمجتمع أن يبرز تلك الكفاءات، وهل تنجز الديمقراطية دائماً هذه المهمة، أم ينبغي التدخل لإنجازها؟، هنا يقدم توماس بيكيتي في كتابه “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”، إجابةً أوليةً مفادها، بأنّ “المجتمعات الديمقراطية تعتمد على نظرةٍ قائمة على الجدارة”، وهنا تستطيع تلك المجتمعات بيسرٍ انتقاء الأكفأ وفق النظم الانتخابية السائدة، لتصبح الديمقراطية نظاماً سياسياً قائماً على جدارة النظام الاجتماعيّ واللذان يصنعان معاً الجدارة كنظامٍ سياسيّ، ولكن يبرز هنا إشكالٌ معقدٌ عند المقارنة بين المجتمعات التي لم يكتمل عندها الوعي باليموقراطية، مقارنةً بتلك “الديمقراطية”، وهنا نتحفظ مبدئياً على التصنيف، والسؤال، هل كلّ المجتمعات بذات الوعيّ الديمقراطي لاختيار الأنسب لتمثيلها سياسياً، أم أنّ عوامل ذاتية في بنية الوعي المجتمعي، ستجعل من الانتخابات عامل فرزٍ ينتج الأقل كفاءة وربما أحياناً ينتج أشخاص سيئون؟، والجواب، إنّ هنالك تفاوتٌ اجتماعيّ بالوعي بين المجتمعات عموماً وضمن المجتمع ذاته أيضاً، فبنية الوعي مرتبطةٌ بعوامل إدراكيةً وثقافيةً ونفسيةً تختلف باختلاف الظروف الثقافية والسياسية، ولكنّ الديمقراطية رغم سلبياتها لا تزال عاملاً معياراً لا ينبغي التراجع عنه، وفي المجتمعات النامية ترك هذه الديمقراطية (مطلقةً) سيأتي بنتائج عكسيةً على مستقبل المجتمع، وربما تؤخر أو تلغ فكرة الجدارة السياسية كنظامٍ اجتماعيّ سياسيّ، لذلك، ينبغي معالجة الخلل دون إلغاء الفكرة، فالمطلوب الجدارة السياسية كنظامٍ سياسي، والانتخابات وسيلةً أساسية لذلك، من خلال إدخال المعايير إلى الشروط الانتخابية، فالمعايير بحدّ ذاتها تجويدٌ لنظام الجدارة ومنبثقةٌ عنه، وبالوقت ذاته هيّ ضابطةٌ ومخففةٌ لسلبيات الديموقراطية المطلقة، فيكون الاختيار المجتمعي الحرّ لأشخاصٍ يتمتعون بالحدّ الكافي من الجدارة، وهو اختيارّ ديمقراطيّ يضمن أفضل المخرجات، ومسألة إدخال المعايير ليست مسألةً تقييديةً على خيارات الناخب، لأنّ الهدف هو الصالح العام، تهدف الديمقراطيات التمثيلية لبلوغه، وعلى اعتبار أنّ الديمقراطية ليست تجربةً ناجزةً يمكن استحضارها لمجرّد تطبيقها في مجتمعٍ آخر، بل هيّ بناءٌ للوعي متدرجٌ لا يكتمل في مرحلةٍ معينة، تكون الديمقراطية المقترنة بمعايير هيّ مرحلةٌ من مراحل بناء الوعيّ الديمقراطي الهادف للصالح العام، والمعايير هنا ليست مقدسةً بل خاضعةٌ للتقييم والتقويم بناءً على واقع ومتطلبات المجتمع، تضعها السلطة المنبثقة عن الانتخابات ذاتها، فتصبح المعايير سبيلٌ لوصول الأكفأ ونتاج عمله لاحقاً، وبقدر ما تكون المعايير جيدةً وقابلة للقياس، يكون قياس الأداء أفضل.
طبعاً لا يكتمل الوعي بالجدارة السياسية (الميرتقراطية) دون تمييزها عن مصطلح التكنوقراط، فـ(التكنقراطية) هيّ أنموذجٌ للحكم يتم اختيار صناع القرار فيه على أساس خبرتهم المعرفية والتدريبية، وبالتالي تختلف عن الميرتقراطية، في أنّ الأفراد الذين يتم اختيارهم لدورٍ قياديّ أو تمثيليّ يتم من خلال عمليةٍ تؤكد على مهاراتهم ذات الصلة وأدائهم المثبّت، على عكس ما إذا كانوا يناسبون مصالح الأغلبية في التصويت الشعبي أم لا كما في الحالة الميرتقراطية، بعبارةٍ أكثر وضوحاً فالتكنقراط هم جديرون، ولكن لا ينبثقون عن الجدارة السياسية كنظامٍ لفقدانهم عنصر الاختيار الديمقراطي من المجتمع، وربما في هذا الحالة قد يعيدنا التكنقراط إلى نقطة البدء في وجود أرستقراطيةٍ طبقيةٍ تحكم بفضل الطبقة والثروة، كان لا بدّ للتخلص منها من تطبيق الميرتقراطية، في كتابه “التكنقراطية” عام (1969) يشعر إيلول ماركوز بالقلق من فكرة “صعود أولئك الذين يمتلكون القدرة التقنية إلى السلطة، على حساب النوع التقليدي من الساسة”، فالمجتمع التكنقراطي، بحكم تعقيده، يجعل المعرفة المتخصصة ضرورةً على نحو يبرّر استبعاد المواطن العادي من الحكم، وبالتالي يتحدى الرؤية الكلاسيكية للمواطنة القائمة على الحكم الديمقراطي، وهنا يتحدث عمّا يمكن تسميته (استبداد التكنقراط)، لذلك وبينما يمكن أن ينجح التكنقراط على مستوى المؤسسات، لا يمكن تجاهل الميرتقراطية (الجدارة السياسية) على مستوى النظم السياسية المنبثق من ديمقراطية المعايير.
بالختام، إسناد السلطة في المجتمع بديمقراطية المعايير تضمن أفضل المخرجات، كما يساعد على نمو الوعي بالجدارة كنظامٍ سياسيٍّ اجتماعيٍّ يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، فالوعي الديمقراطيّ هو وعيٌّ متدرجٌ يُبنى على التجربة وتقييمها باستمرار.