“أيّام الفنّ التّشكيلي7”.. حوار بين جيلين حول التّسويق والنّقد وقضايا أخرى
أمينة عباس- نجوى صليبه
حملت النّدوة الأولى لأيّام الفنّ التّشكيلي بدورتها السّابعة، والتي أقيمت في كلية الفنون الجميلة، على مدار ثلاثة أيّام، رسائل عدّة وجهها المشاركون إلى الحضور من طلاب الكلية وخريجيها لتكون عوناً لهم في مسيرتهم والتي وصفها مدير الندوة أكسم طلاع بالوصايا، حيث خاطبهم د. سائد سلوم رئيس قسم التصوير في الكلية قائلاً: “أيها الشباب.. اكثروا من زاد العلم والمعرفة والجمال، فمَن أخلص في عمله نال أمله، ولا يُعدّ خائباً إلا من يلقي اللوم على الظروف، مع تأكيدي معرفتي بهمومكم، لكن لا تقدموا العرض على الجوهر، وانتبهوا إلى تغيرات القيم الجمالية والفنّ والشّبيه بالفنّ، ولا تغرّنكم فنون اللهو واللعب الغرائزي في العالم، فهي ليست من الفنون الجميلة، وإن روّج لها البعض من أصحاب رأسمال لأنّ الفن المنحطّ زائل، وغرائزيته من خصائص الحيوان، أمّا الجمال فهو خاصية الإنسان العاقل ورسالته المنطقية، حيث لا يُدرَك معنى الإنسان عبر وسائل التّواصل التي أصبح الميلان نحوها مقياس النّجاح، واحذروا ما يسمى بالذّكاء الصّنعي الذي يلبس الصّحيح بالمزيّف والحقّ بالباطل إن لم تحسنوا إدراكه وتصيغوه بعقولكم الذكية، فما نتائجه على البشرية إلا سريالية الانفجار والانشطار والتنازع”.
وتؤكّد د. ناهد بلان عضو الهيئة التّدريسية في كلية الفنون الجميلة- قسم التّصوير أنّ الفنان وإن تأثر بالفنون القديمة وفنون الحداثة، لكن أصل العمل الفني يبقى في كونه وليد اللحظة، تقول: “مرّ كلّ جيل بمرحلة معينة كانت أعماله وليدة تلك المرحلة التي عاشها، ما يعني ارتباطه الشّديد بزمنه وعصره من خلال الأعمال التي يقدمها بمختلف الأدوات والأساليب، وهذا ما عبّر عنه “هيدجر” عندما بيّن أن الفن يحفظ الحقيقة الجوهرية ليثبت لحظة تاريخية معينة، وهو لا يتعلق باسترجاع الماضي ولا يرتبط بالتّسلسل الزّمني، إنّما بدراسة الأشكال وليدة لحظتها وتاريخها وهي تثبيت لتجربة الفنّان المعاشة، فما يثير الدّهشة في فنون الحضارات القديمة الدّيمومة، فهذه الفنون وإن كانت تتبع حاجة جمالية في عصرها وزمانها، لكنّها كانت مرجعية فنّية وشكلية للفنّان السّوري الحديث والمعاصر، إذ لا يمكن قياسها بارتباطها بتاريخها وعصرها فقط، إنّما في ديمومتها وتأثيرها على الفنون اللاحقة”.
وتجسيداً لعنوان الندوة “حوار بين جيلين”، أتاح مدير الجلسة الفنّان التّشكيلي والنّاقد أكسم طلّاع وقتاً كافياً للاستماع إلى الطّلاب، وفي ردّه على بعض ما طرحه الطّلاب، ولاسيّما فيما يتعلّق بدور الأستاذ وآلية عمله مع الطلاب أكّد د. عبد النّاصر ونوس رئيس قسم الغرافيك والمليتميديا أنّ “الأستاذ يعيش في كلية الفنون الجميلة حالة أبوية وعلاقة زمالة ومعرفة وبناء، وما يميّز هذه العلاقة هو الجهد الكبير الذي يبذله الأستاذ مع الطّالب في الكلية لأنّ كلّ طالب حالة خاصة يجب محاورتها ومعرفة ما تريد وتعريفها بما تريد، وإن المرحلة الأولى في هذه العلاقة هي الأصعب حين يسعى الأستاذ الأكاديمي إلى غسل كلّ رواسب الأشياء المشوّهة والرّمادية في ذهنية الطّالب وتحويلها إلى مساحة بيضاء والعمل على إعادة بنائها أكاديمياً، وهي عملية ليست سهلة وتجابَه في كثير من الأحيان بالرّفض من قِبل الطالب بحجة إلغاء هويته ورأيه من دون أن يعي أننا بهذه الخطوة وغيرها نحاول زرع أجنحة لهم ليطيروا بها بعد التّخرّج نحو فضاء أوسع، ولاسيّما أن معظمهم يأتون من منظومة مدرسية وأسرية لا تعير اهتماماً للمادّة الفنيّة، وهنا تقع على عاتق الأساتذة مهمّة كبيرة وصعبة في جعله يخطو خطوته الأولى ليصبح على السّكة الصّحيحة ويستطيع بعدها بناء نفسه في حضن الكلية.. من هنا أرى أن ندوة حوار بين جيلين داخل الكلية أمراً ضرورياً في ظل التّسارع الحاصل في زمن العولمة التي يلهث فيها الطلاب باتجاه الأحدث فالأحدث من دون امتلاك قواعد الانتظار، في الوقت الذي نحاول فيه كأساتذة أن نقول لهم إن المعرفة تحتاج إلى انتظار وقراءة عميقة وذكاء”.
العمل الفني بين القيمة الإبداعية والقيمة المادية
وفي اليوم الثّاني وتحت العنوان ذاته، تحدّث الفنّان مصطفى علي قائلاً: “عندما كنّا شباباً كنا نعرف أنّ الفنّ لا يطعم خبزاً، وأتذكّر أن أساتذتي ووفق ما كانوا يقصّون لنا كانوا يعيشون من رواتبهم، أمّا لوحاتهم فيرسمونها ويضعونها على السّقيفة، حتّى تأتي مناسبة ما ويقدمونها هدايا، وبعد ذلك ومن المعرض السّنوي لكلية الفنون الجميلة كانت الوزارة تأخذ لوحة أو منحوتة للفنان مقابل مبلغ مالي يسدّ حاجاته، لكن بعد أن انتشار صالات العرض الخاصّة نشطت حركة الفنّ والتّسويق، وزاد الاهتمام بهما، وتالياً تطوّرت الذّائقة البصرية”.
ومقابل ذلك، يعبّر علي عن أسفه لوجود متحف وطني فيه نفائس فنية لا يراها أحد، إلّا إذا دخل صدفةً أو جلس في “الكافتيريا” وشاهد التّماثيل الموجودة في حديقة المتحف، مبيّناً: “مهمتنا اليوم هي معرفة كيفية تسويق وتنشيط ما يمكننا لتطوير الذّائقة الفنيّة عند النّاس، فالفنّ ضرورة لا كمالية”، وبسؤاله عن معيار العمل النّاجح أو الإبداعي، يجيب علي: “نجاح العمل يعود بالدّرجة الأولى إلى قيمته الفنيّة، والنّجاح بحاجة إلى تسويق”.
بدورها، تقول رولا سليمان صاحبة “غاليري زوايا”: “أقمت معارض لفنانين شباب وفنّانين كبار ومهمّين، وأنا أعتقد بأن الحالة الإبداعية والتّسويقية تكمّلان بعهضما، لكن الحالة الإبداعية أكثر أهميّة وبغيابها لا يمكن للصّالة تسويق أيّ لوحة، وهناك فرق بين أن تكون اللوحة جميلة وأن يكون فيها حالة إبداعية، فالثّانية تساعد أكثر في تسويق اللوحة، والموازنة بين القيمة الإبداعية والتّسويقية تعتمد على الصّالة وقدرتها على تسويق الحالة الإبداعية التي تحدّد قيمة العمل وقدرة الفنان على الإبداع والتّحرر، لكن نقطة ضعف الجيل الحالي هي أنّه لا يسافر، أما الجيل السّابق فسافر واطّلع على التّجارب الأخرى، حتّى نحن كصالات من الصّعب علينا إقامة معرض أو ملتقى في الخارج، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ اللوحة التي تُرسم بحبّ أسهل في الوصول والتّسويق من التي ترسم بقصد البيع”.
وتتحدّث سليمان عن الجمهور المتلقّي كعنصرٍ أساسٍ في تحديد القيمة الإبداعيّة للوحة، موضّحةً: “عندما نثقّف الطّفل ونعلّمه كيف يتلقّى العمل الفني، يكبر وهو مشروع مقتنٍ، والمقتنون أنواع، بعضهم يأخذ اللوحة لحالتها الإبداعية وبعضهم لاسم صاحبها وهذا أمرٌ معروفٌ وليس خطأ”.
سعد القاسم وإشارات وأسئلة حول الكتابات الموازية للعمل الفنّي
ولا يكتمل هذا الحديث من دون التّطرق إلى الكتابات الموازية للعمل الفني، لذلك اختتمت “أيّام الفنّ التشكيلي” بندوة “كتابات موازية للعمل الفني- إشارات وأسئلة”، قدّمها النّاقد والإعلامي سعد القاسم الذي وقبيل حديثه عن واقع النّقد التّشكيلي اليوم، استعرض أربع مقالات تشكيلية نقدية نُشرت بين عامي 1950 و1968 وهي أربعة نصوص كتبها صدقي إسماعيل وسليم عادل عبد الحق وأدونيس ونذير نبعة حول تجربة الفنان نصير شورى أحد رواد الحداثة في الفنّ التّشكيلي، يقول: “كان القاسم المشترك بينها المعرفة والموضوعية على الرّغم من اختلاف صياغاتها، وكانت أقدم هذه النصوص لصدقي إسماعيل عن أحد مَعارض نصير شورى الذي أقيم عام 1950 وفيها تجاوز إسماعيل النّاقد الفنّي الحالة الأدبية الوصفية، مستعرضاً في نصّه تجربه شورى ومقارنتها بتجارب عالمية وقد أوجد العذر له بتأثره بأكثر من واحدة منها”.
وفي سرده لحال النّقد الفنّي في سورية الذي بدأ مترافقاً مع الشّكل المعاصر للفنّ التّشكيلي في مطلع القرن العشرين، أشار القاسم إلى السّجال الذي دار بين تيار الواقعية الكلاسيكية الذي كان يرى أنّها الفنّ التّشكيلي الحقيقي وتيار الفنّ التّجريدي الذي كان يرى أنّ الفنّ حالة إبداعية ورؤية خاصّة للواقع وليس توثيقاً له قائلاً: “فتحت الكتابات النّقدية المترافقة أفقاً متطوراً في التعامل مع العمل الفنّي بمفهوم الفنّ والجمال وليس بمفهوم الفكرة”.
ولا يخفي القاسم وجود نصوص غرائبية كانت موجودة في السّاحة التّشكيلية وما يزال بعضها موجوداً اليوم: “مثل نصوص أسعد عرابي الذي كان يقدّم نصّاً غرائبياً من دون أخذه بالحسبان المتلقي الذي يجب أن يفهم ما يُكتب إليه حين قدّم منهجه النّقدي بقوة، وكان يعتقد بأنّ النّص يوازي العمل الفنّي إبداعياً، لذلك ارتقى بكتاباته التي تصلح لنخبة النّخبة، أما الاتّجاه الثّاني الذي كان سائداً في الكتابات النّقدية والتّشكيلية فهو اتّجاه الوصاية الذي لا أفضّله حيث يملي النّاقد على الفنان ما يجب أن يقوم به في لوحته، كما كانت مشكلة غالبية الفنانين الذين كتبوا في النّقد أنّهم كتبوا انطلاقاً من أسلوبهم الشّخصي كأنموذج، ووضع أسس جمال خاصّة به وطبّقها على الجميع”.
ورأى القاسم أنّه لا يمكن للنّقد أن يكون سابقاً على الإبداع، وأنّ مهمّة النّاقد تأتي بعد انتهاء الفنّان من عمله الفنّي من خلال مناقشته ليكون وسيطاً بين الفنّان والجمهور، والأخطر أن ينتظر الفنّان رأي النّاقد ليقرر ما يجب القيام به، في حين أنّ النّقد هو اللاحق للعمل الفنّي وإن سبقه حدّده وجمّده في قوالب، أمّا الكتابات الموازية الأخرى إلى جانب النّصّ النّقدي فهي الكتابة الصّحفية المتعلّقة بالفنّ التّشكيلي والبعيدة عن مفهوم النّقد الفنّي”، موضّحاً أنّ المشكلة الكبيرة في الإعلام اليوم هي أنّ معظم الإعلاميين يتعاملون مع الحركة الفنية من دون ثقافة أو إدراك لخصوصيتها، ومضيفاً: “لذلك تهتمّ هذه الكتابات بالتّعريف بالأحداث الفنّية لا نقدها، وبقضايا الفنّ غير الإبداعية كموضوع دعم الدّولة للفنّ وأشكال هذا الدّعم وعملية الاقتناء الخاصّة ودور الصّالات، مع غياب شكل آخر من الكتابات الموازية هو ما يسمّى بـ”البيان الفنّي الشّخصي للفنان” على الرّغم من أهميته في تقديم تجربة الفنّان برؤية الفنّان ذاته، وهو ما يجب أن يكون من ضمن شروط أي معرض يقام اليوم”.
ويستند النّقد في الفنّ التشكيلي على ثقافة المقاربة والذّاكرة حسب القاسم: “يقوم النّقد على علم الجمال، وهو محدّد أسسه وقد تغيّرت هذه الأسس تدريجياً في العصر الحديث، إذ سقط الكثير من مستندات هذا العلم الذي يستند النّقد عليه، لذا يبدو السّؤال مشروعاً: كيف أنقد اليوم؟ وعلى أي أساس؟، لا يوجد لدينا نقّاد منذ سنوات طويلة، ولم تعد لدينا كتابات نقدية، لأنّها في الوقت الحالي سلعة ثقافية غير مطلوبة، فلا الفنّان يريده ولا الصّالة ولا المتلقي، ولا فنّ من دون جمهور، وفنّانون كبار يقيمون معارضهم ولا أحد يرتادها، مع انتشار كتابات مأجورة بعيدة كلّ البعد عن النّقد الموضوعي تقوم بالتّرويج لبعض الأسماء والمَعارض”.
ما الجديد بهذه الدّورة من أيّام الفنّ؟
أمام كلّ ما سبق لا بدّ من السّؤال عن اختلاف الدّورة الحالية لـ”أيّام الفنّ التشكيلي” عن سابقاتها، يجيب طلّاع: “غدت هذه الأيّام فرصة للاطّلاع على المشهد التّشكيلي السّوري بعين فاحصة أكثر، ونافذة نطلّ من خلالها على أسئلة الفنّان التّشكيلي السّوري والجيل الجديد منه، كذلك اكتشاف مواهب جديدة، بحيث أصبح المعرض السّنوي يعنى بنوع المشاركات وانتفى منه الحافز المادّي ليكون الدّافع للمشاركة حماس الفنّان وحضوره الوطني”.
ويرى أ. عبد الناصر ونوس أنّ أيّام الفن التّشكيلي أثبتت نجاحها واستطاعت عبر تراكم دوراتها تقديم قيمة مضافة، ونجحت شيئاً فشيئاً في مواكبة المتغيّرات وقول كلمتها حين أكّدت أنّ الفنّ أوسع من اللوحة ويضمّ مجالات أخرى بصرية معاصرة تحاكي الحياة اليومية، مضيفاً: “مع إصرارها على ترسيخ حالة الحوار على الرّغم من أنّنا نعيش ظروفاً غير نمطية وغير سليمة، وإن كان الطموح أكبر لكنّ هذه الأيام بما يُنجز فيها ما هي إلّا تأسيس لتقديم ما هو أفضل”.
ويؤكّد مدير الفنون أ. وسيم عبد الحميد أنّ المؤسّسات المعنية بالحركة التّشكيلية تعاني ظروفاً صعبة نتيجة الحرب التي شُنّت على بلدنا، لكنّها لم تتوقف عن إقامة المعارض والملتقيات والورشات لدعم الشباب، مبيناً أنّها “تستعد لإطلاق متحف الفنّ الحديث الافتراضي بهدف تسويق أعمالهم وأعمال كلّ الفنانين السّوريين الذين أثبتوا أنّهم على قدر المسؤولية”.