ثقافةصحيفة البعث

بسطات الكتب من الحاجة إلى المنظر

نجوى صليبه

توجد “سوق الكتب المستعملة” -المعروفة محليّاً بالبسطات- في معظم البلاد العربية والأجنبية، ففي مصر مثلاً “سوق الأزبكية” ويقع أمام مسرح العرائس وبجوار المسرح القومي وفق ما تحدّد صحيفة “اليوم السّابع”، وفي شارع النّبي دانيال أشهر وأقدم شارع في الإسكندرية سوق مهمّ جدّاً للكتب المستعملة، أمّا في العراق فشارع المتنبي من أشهر الشّوارع التي تبيع كتباً مستعملةً، وقد أخبرنا عنه بعض الأدباء الذين سافروا إلى العراق واطّلعوا على الكتب القيّمة التي تباع فيه، وفي تونس سوق “نهج الدّباغين”، وفي المغرب يوجد بحسب ما اجتمعت معظم المصادر التي اطّلعنا عليها أكثر من مائتي سوق للكتب المستعملة، منها سوق “باب دكاكة” و”باب الأحد” وسوق “المدينة القديمة”، وتنتشر صناديق خضراء مخصصة لبيع الكتب في العاصمة الفرنسية باريس وتبلغ حوالي التّسعمائة صندوق، ويعدّ الحي اللاتيني الأكثر شهرة في هذا المجال -بحسب تقارير إعلامية-، إذ يمتدّ على طول ثلاثة كيلومترات، كما تلقّب مدينة “هاي أو نواي” البريطانية بـ”مدينة الكتب” لأنّها تحتوي ما لا يقلّ عن إحدى وأربعين مكتبة للكتب المستعملة.

ويختلف الوضع في سورية قليلاً، من حيث الكمّ والحجم وربّما نسبة القرّاء، إذ إنّ البسطات ليست بهذا الحجم وربّما التّنوّع أو حتّى الشّعبية، مع ذلك قد لا يوجد قارئ أو أديب أو مثقّف إلّا واشترى من بسطات الكتب الموجودة في مركز مدينة دمشق المكتظّ دائماً بالمارّة، نقصد منطقة تحت “جسر الرّئيس” وعلى طول الطّريق إلى منطقة الحلبوني، وإن لم يشتر فقد التقط كتاباً وتصفّحه وتناقش مع صديقه أو صديقته حوله، ليس هذا فحسب، بل البعض كان يوصي صاحب بسطة ما بتأمين كتاب لا يجده في المكتبات أو ربّما وجده بسعر مرتفع لا يملكه، وفي الغالب كان يحصل على ضالته خلال شهر أو أقلّ، أمّا إن تحدّثنا بلسان أصحابها، فالبعض يراها بمنزلة المكتبات والبعض يراها أكثر أهميةً منها، وهي لدى الغالبية مصدر رزق يعيش منه عائلة أو أكثر.

سنوات طويلة -قبيل الحرب حتّى- ونحن نسمع عن إمكانية إقامة سوق، في مكان لم يحدّد حينها، تنقل إليه كلّ البسطات الموجودة في البرامكة والحلبوني وغيرهما، لكن حينها لم تذكر أبداً بسطات الكتب ولم يذكر أحد أنّها ضمن هذه الخطّة، كما لم يسبق أن تحدّث أحد المعنيين عنها، لذلك كان من المفاجئ جدّاً إزالة هذه البسطات، ومن دون سابق إنذار، بحسب ما ذكر بعض أصحابها.

إزالة البسطات بهذه الطريقة المفاجئة والعشوائية، ولاسيّما أنّها تزامنت مع إقامة معرض الكتاب السّوري الثّالث، أثارت غضب واستياء مثقّفين وأدباء سوريين، وعبّروا عن ذلك بمنشوراتهم على صفحاتهم الشّخصية على شبكة التّواصل الاجتماعي “فيسبوك”، منوّهين بوجود مشكلات أكثر أهمية من كتب “تشوّه المنظر الحضاري” كأزمة المواصلات وارتفاع الأسعار مثلاً، يقول الشّاعر قحطان بيرقدار ساخراً: “من شدّة إقبال الجماهير الغفيرة “الجائعة للثّقافة” على معرض الكتاب السّوري الحالي بسبب “الأسعار المنخفضة” على نحو مذهلٍ للكتب المعروضة فيه، تقرر إزالة “بسطات الكتب” من تحت الجسر، لأنّها تشوّه المشهد الحضاري للتّواليتات الجدارية الفوّاحة حول مواقف السرافيس المتاحة جدّاً جدّاً”.

أمّا الزميل الصّحفي نضال بشارة فنوّه بأنّ مجرى نهر بردى كان الأولى بالتّنظيف، مرفقاً منشوره بصورة للمجرى والأوساخ والقمامة تغطيه، يقول: “للمفارقة صورة المجرى هذه التقطت قبل يوم واحد من إزالة هذه البسطات”.

ولم يكتف مثّقفون وأدباء آخرون عند ذلك، بل بدأوا بجمع تواقيع لتقديم “رسالة مفتوحة إلى السّيّدة الوزيرة ومحافظ دمشق”، أشار الموقّعون عليها إلى أنّه بعد أن أغلقت معظم مكتبات العاصمة أبوابها، وأمام ارتفاع أسعار الكتب في بقية المكتبات، لم يبقَ من فسحة للقرّاء سوى بسطات الكتب المستعملة، لكن وعلى حدّ وصفهم “المذبحة” التي طالت هذه البسطات سدّت آخر رئة لتنفّس هواء المعرفة، وأنّهم ليسوا ضدّ تجميل المكان، لكن بسطات الكتب ملاذ جمالي ومعرفي، وقالوا إنّه “كان الأجدى إعادة رصيف كلية الحقوق إلى هويته القديمة، الرّصيف الذي يعجّ اليوم بكلّ أنواع القبح ما حجب إحدى التّحف المعمارية عن نظر العابرين.. أعيدوا لنا هذا المكان الأليف، فما أقلّ الزّاد وما أطول وحشة الطّريق”.

ونذكر من الأدباء الموقّعين على هذه الرّسالة، السّينمائيين محمد ملص وجود سعيد، والرّوائيين خليل صويلح ومحمد الحفري، والشّاعرين غانم بو حمود وإبراهيم عباس ياسين، والباحث الدّكتور علي القيم وباحث الآثار الدّكتور غسان القيّم، والمسرحي  أسامة غنم والكاتبة ديانا جبور، وغيرهم كثير.

المكتب الصّحفي لمحافظة دمشق وعبر صفحته الرّسمية على الـ”فيسبوك” أيضاً، وبعد كلّ هذا الاستياء ذكر أنّ المحافظة أزالت البسطات والإشغالات بمحيط جامعة دمشق وتحت “جسر الرّئيس” لأنّها غير نظامية ومن بينها بسطات الكتب، ولأنّها تسبّب ازدحاماً ومضايقات لحركة المشاة، بالإضافة إلى تشويه المنظر العام، موضّحة أنّ شكاوى عديدة وردت من قبل مواطنين وأعضاء مجلس محافظة ولجان أحياء بإزالة هذه الإشغالات، علماً أنّه تمّ إعلام أصحابها وتنبيههم أكثر من مرّة من دون استجابة، وأكّدت المحافظة أنّه بالنّسبة إلى بسطات الكتب على وجه الخصوص فإنّها تجهّز أماكن مناسبة لها وتليق بالكتاب، وتحت إشرافها للحفاظ عليها وتنظيم عملها وتأمين استمرارها وتلبية حاجة مرتاديها بشكلٍ نظاميٍّ”.

أمّا وقد قال كلّ قوله ننتظر من المعنيين فعلاً يليق بالمشهد الثّقافي والمنظر الحضاري لمدينة دمشق العريقة خصوصاً وبقية مدننا عموماً.