تحقيقاتصحيفة البعث

ليس وهماً.. ممارسة الأنشطة الفنية المختلفة علاج فعال لتحسين الصحة النفسية والاجتماعية

ليندا تلي

دراسات علمية كثيرة أشارت إلى أنّ المشاركة في الأنشطة الفنية والحرف اليدوية يمكن أن تعزّز بشكل كبير من الرفاهية من خلال توفير مساحات ذات مغزى للتعبير والإنجاز، كما أنّها تُقدّم دفعة كبيرة للصحة النفسية، حيث تقلّل مستويات هرمون الكورتيزول في الجسم، وبالتالي تعادل في تأثيرها الإيجابي فرحة الحصول على فرصة عمل، في حين أجمعت أغلب الآراء التي رصدناها على أنّ ممارسة الفن أو امتلاك حرفة اليوم بلسم لتنفيس الضغوط الحياتية جراء الظروف المعيشية القاسية التي تمرّ بها البلاد، متفوّقة في آثارها الإيجابية على الصحّة النفسية والمادية على امتلاك وظيفة في القطاعين العام والخاص.

احتضان الطفل الداخلي

هدى الفرّا فنانة تشكيلية اعتبرت الإبداع ترياقاً تطهيرياً يساعد على تعزيز المرونة والتعافي والمصالحة، مستندة إلى بعض الدراسات التي تحضّ على حفظ الشعر وضرورة تنمية الهواية والموهبة في سبيل الحفاظ على ذاكرة الإنسان، أي ليس من الضروري ممارسة الأعمال اليدوية والفنية، فالفنان حين يرسم يُخرج ما في داخله بواسطة ريشته وألوانه، وبالتالي ينعكس على نفسيته ويشعر بالراحة أكثر، وهذا ما كانت تشعر به حينما ينال عملها إعجاب وتقدير الزبون أو المنتج، لافتة إلى أنّ عملها في إحدى المؤسّسات الحكومية كان من صلب اختصاصها، وهذا ما ضاعف شعورها بالرضا والسعادة، مشجعة على احتضان الطفل الداخلي لدى الإنسان.

التعايش الجمالي

الفنان رائد خليل أكّد أهمية المشاركة في أي نشاط إبداعي باعتباره عاملاً مؤثراً في تفتيح الذهن على أشياء لم نُبصرها من قبل ويحفّز العقل على قول الممكن، وهذا ما يُسمّى بالصيغة الأدبية “التعايش الجمالي”، وخلق معادلة التأثير والتأثّر، مشيراً إلى أن الأنشطة الإبداعية دائماً ما تمنحنا بعداً آخر وتسلّمنا مفاتيح الأفق لقول الجميل، واعتبر خليل الفنون باباً من بوابات التأمّل والتعرّف والفهم على أبجديات وإيقاعات جديدة، وهذا يسمّى بالأثواب الجديدة أو “التجريب” الذي يشكّل بنية ذهنية خالصة من خلال التعامل مع مفردات حياتية تُضفي على النفس روحاً جديدة بلون مغاير ومختلف، وبغية مساعدة من لا يعتقد نفسه مبدعاً اقترح خليل تحفيزه من خلال تسليمه مفتاح المشاركة على طبق من فضّة في البداية ثمّ التشجيع أكثر على قراءة المفردات وشرحها للاندماج والانصهار أكثر في العملية الإبداعية وألّا يقف موقف المحايد تجاه أي مُنجز يؤثّر نفسياً على المتلقّي.

تجريب

بدوره لم يخفِ المصور والمصمّم ياسر محمد وردة سعادته بعد أن تمكّن من إتقان عمله والإبداع فيه، مؤكداً على صحة الدراسات العالمية التي تؤكد أن العمل الحرّ أفضل من الوظيفة، خاصّة وأنّ لديه إعاقة، ونصح أبناء جيله بضرورة التجربة باعتبارها تكشف القدرات وتُعطي خبرة وإنتاجاً أكبر أيّاً كان المجال الذي يهواه.

روتين واختراق وظيفي

طبيعة الشخصية تلعب دوراً محورياً، وفق ما قالت المعالجة النفسية الدكتورة هبة موسى، باعتبار النفسية تصدر عن الفائدة العقلية أو بالتوازي، فإذا كانت الشخصية غير محبّة للقواعد العامة مثل الالتزام بموعد الدوام يكون الشخص دخل حالة روتين واختراق وظيفي، أمّا إذا كانت الشخصية قادرة على تحمّل جمود العمل في القطاع الحكومي أو الخاص، فهي تخلق التفاؤل من تلقاء نفسها، وبالتالي تترفّع في درجات العمل، بينما يعتبر مجال الأعمال الفنية رحباً وقابلاً للإبداع ولا يدخل في الروتين بل له مستقبل نفسي عقلي وحتى اقتصادي أكثر من الأعمال الحكومية أو الخاصة.

تنفيس الانفعال

واعتبرت المعالجة النفسية العمل الفني وسيلة لتنفيس الانفعال والخروج من الضغوطات التي يكابدها الشخص، فمثلاً الرسم آلية لتفريغ الانفعالية، وكذا الحال في الموسيقا لأنّها وسيلة للتعبير عن العواطف والأفكار المدفونة بأعماق الذهن والعقل الباطني، أي تحويل التجارب الحياتية إلى تجارب فنية، أي بمعنى آخر تحويل السلبي إلى إيجابي، وبالتالي خلق توازن داخلي للشخص، لافتة إلى أنّ الفن والإبداع لا يُزرعان عند الشخص، ولكن في الوقت ذاته لكلّ شخص جانب إبداعي في مكان ما أو بطريقة ما، فعلى سبيل المثال ربّة المنزل حين تطبخ فهذا بحدّ ذاته إبداع، ويمكن من خلال الثناء والمديح إيقاظ الجانب الإبداعي لدى الشخص.

تغلّب على الضغوط

الباحثة الاجتماعية الدكتورة دينا سلامة أكدت أنّ الفنون والأشغال اليدوية لم تعد اليوم وسيلة لتمضية الوقت أو تعلُّم مهارة جديدة فحسب، بل طريقة للتغلُّب على الضغوط والتأثيرات السلبية النفسية للحياة اليومية، حيث تُسهم بوصفها مهارات دقيقة تحتاج إلى تركيز دقيق ودقّة في العمل بشكل ما في التفكير في مشكلاتهم أو نسيانها أو ترتيب أفكارهم المبعثرة، وتساعدهم في تحسين الذاكرة، ممّا يشعرهم بالسعادة الكبيرة والإنجاز لما لها من عمل مفيد وجميل.

بيئة عمل آمنة

على مستوى العمل، رأت سلامة أن العمل اللائق يدعم الصحة النفسية الجيدة باعتباره مصدراً للرزق، والإحساس بالثقة ووضوح الهدف والقدرة على الإنجاز، والفرصة لإقامة علاقات إيجابية والاندماج في المجتمع، كذلك ممارسة أنشطة روتينية منظّمة، ولا تعدّ بيئات العمل الآمنة والصحية حقاً أساسياً فحسب، بل يرجّح أيضاً أنها تُفضي إلى خفض التوتر والنزاعات في العمل إلى الحدّ الأدنى وتُحسّن استبقاء الموظفين وأداء العمل والإنتاجية، وخلاف ذلك، ويمكن أن يؤثّر نقص الهياكل الفعّالة والدعم في العمل، وخاصة للمتعايشين مع اعتلالات الصحة النفسية، على قدرة الفرد على الاستمتاع بعمله وحسن أدائه، ويمكن أن يحدّ من حضور الأفراد في العمل، بل قد يحرمهم حتى من الحصول على وظيفة أصلاً.

مخاطر العمل

وبالمقابل قد تسهم متطلبات الوظيفة أو الجدول الزمني للعمل، أو الخصائص المحدّدة لمكان العمل أو فرص التطور الوظيفي في العديد من المخاطر على الصحة النفسية، وفق ما ذكرت سلامه، منها نقص استخدام المهارات أو عدم امتلاكها، وأعباء العمل المفرطة أو وتيرته، ونقص الموظفين، كذلك العمل لساعات طويلة أو في أوقات غير معتادة أو غير مرنة، وعدم التحكم في تصميم الوظيفة أو عبء العمل، وظروف العمل المادية غير الآمنة أو المتردية، ووجود ثقافة تكرّس السلوكيات السلبية في المؤسسة، والدعم المحدود من الزملاء أو تسلّط المشرفين، والعنف أو المضايقة أو التنمر، وانعدام الأمان الوظيفي، وعدم كفاية الأجور، وضعف الاستثمار في التطوير الوظيفي، والتضارب بين متطلبات المنزل والعمل.

تعزيز الروابط الاجتماعية

وبرأي سلامة أن الأعمال اليدوية والحرفية تعمل على تعزيز التواصل الاجتماعي بين المجتمعات المحلية، حيث يعمل الحرفيون على تقديم منتجات فريدة وجميلة، مما يعزّز الثقافة والهوية المحلية، كما يتمّ تشجيع التعاون وتبادل المعرفة والمهارات بينهم، وهذا ما يساهم في تعزيز الروابط الاجتماعية والتعاون المجتمعي، فعندما يتمّ بيع المنتجات اليدوية على المستوى المحلي والوطني وحتى العالمي، يتمّ تحقيق إشعاع اقتصادي إيجابي، بحيث يمكن للحرفيين أن يصبحوا جزءاً من سلسلة القيمة الاقتصادية، ويساهموا في توفير فرص العمل وتنمية الصناعات اليدوية، بالإضافة إلى ذلك يمكن لصناعة المشغولات اليدوية أن تعزّز السياحة.

فنانون نفسيون

يعدّ العلاج الفني شكلاً مُعترفاً به من أشكال العلاج النفسي لأكثر من 70 عاماً في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، ويُجريه محترفون مدرّبون يُعرفون باسم الفنانين العلاجيين أو الفنانين النفسيين، حيث يستخدم العلاج بالفن كوسيلة رئيسية للتعبير عن الذات، والهدف منه تخفيف الضغط وتعزيز الرفاهية الاجتماعية والعاطفية والعقلية، وفق ما ذكرت سلامه، كما تعدّ الفنون التشكيلية أحد أهم طرق العلاج إلى جانب الكتابة والموسيقا، لإسهامها في السيطرة على التوتر، وتخفيف الآلام، والتعبير عن المشاعر، وتقوية الذاكرة، وتحسين التواصل، كما تمكّن من استكشاف العالم والتعرّف أكثر على الإمكانات الذاتية للاندماج في المجتمع كأفراد مستقلّين ومتكاملين، كما تُستخدم في علاج أمراض الزهايمر وباركنسون، وتعزيز إعادة التأهيل البدني.