الإمبراطورية الأمريكية تنتحر على المقصلة الإسرائيلية
هيفاء علي
يواجه المسرح الجيوستراتيجي تنافساً كبيراً، وتحديداً بعد دخول الصين وروسيا وإيران وعدد كبير من دول الجنوب بشكل مباشر على خط المنافسة بعيداً عن واشنطن، التي نصبت نفسها ككاتبة سيناريو، والتي تنسب بشكل منهجي أدوار الخاسرين إلى منافسيها الجيوسياسيين، بينما تمنح نفسها دور “المنقذ الجيد”.
وبحسب مراقبين، فإن المخاطر كبيرة، وإذا رفض الفاعلون الجدد، أي دول الجنوب العالمي، الانصياع لهذا السيناريو، فإنهم سيعيقون ظهور العالم الذي تحلم به واشنطن، إذ يبدو أن هذا الخيار هو الذي تمّ اختياره، وهو ما يفسّر الأزمات التي تمزق مناطق عديدة من العالم.
السيناريو الأخير من واشنطن لإجبار خصومها الجيوسياسيين على ارتداء أزياء مصنوعة حسب الطلب، هو استخدام أسلوب التخويف والترهيب، ويأخذ هذا أحياناً شكل التدخل السياسي العسكري والتدابير القسرية الأحادية الجانب، وأحياناً شكل الحروب النفسية.
في هذا السياق، يشكل الهجوم الأطلسي ضد النظام البديل للهيمنة الأمريكية إطار القصة، والسيناريو الذي صمّمته واشنطن يتمّ على المستويين الأفقي والعمودي.
أفقياً، لأن التوترات والأزمات والاشتباكات التي تشمل واشنطن وخصومها الجيوسياسيين تتعايش على الساحة الدولية: مجموعة السبع ضد البريكس، الناتو ضد روسيا، “إسرائيل” ضد إيران، الولايات المتحدة ضد الصين.
عمودياً، لأن الولايات المتحدة تعطي الأولوية لهجومها ضد القوى المناهضة للهيمنة من خلال ممارسة إستراتيجية “الدمية الروسية”: حيث يتمّ تقطيع التماثيل المتشابكة واحداً تلو الآخر، على أمل الإضعاف التدريجي للهدف النهائي، الصين.
وفي إطار إستراتيجية التقطيع العمودية هذه، شكلت روسيا، جنباً إلى جنب مع ألمانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي، الفصل الأول. وفي غرب آسيا، تشكل إيران وحلفاؤها، كما يشهد العالم اليوم، الفصل الثاني. علاوة على ذلك، وكما يتضح من الوجود العسكري المتزايد للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فإن الاستعدادات جارية على قدم وساق لبدء الفصل الثالث، والوصول إلى الجانب الصيني الذي يفترض أنه قد تمّ إضعافه عند المنبع، بسبب التقطيع المسبق لأوصال الصين، أي شركائها الاستراتيجيين.
أما الفصل الثاني من السيناريو فهو تقطيع أوصال المقاومة في الشرق الأوسط، وهو ما يجري اليوم. لقد تصورت واشنطن هذا العمل على أنه مشهد عظيم يجب إضعافه باستهداف كل أعضاء جسمه: غزة، الضفة الغربية، القدس الشرقية، لبنان، العراق، سورية، اليمن، إيران. ويشارك في هذا الجهد العديد من المصارعين: واشنطن، ولندن، و”إسرائيل”، والاتحاد الأوروبي، ولكنهم جميعاً يعملون تحت أوامر كبير المصارعين، المصارع الأمريكي، الذي غالباً ما يتوارى خلف السهام الإسرائيلية.
في هذا الفصل الثاني، ظهرت حلقة أجهزة النداء وأجهزة الاتصال اللاسلكية، الإسرائيلية الأمريكية، وإرهاب الدولة الذي طعن لبنان في الظهر يومي 17 و18 أيلول 2024 ومتواصل حتى اليوم في عدوان سافر يحظره القانون الدولي الأساسي بشكل لا لبس فيه، وقد تم دمجه سراً ومقدماً في الفصل الثاني من السيناريو الأمريكي، ولا شكّ أن هذا المشهد يمثل سابقة من حيث الدوس على حقوق الإنسان وقانون الحرب.
يندرج هذا الفصل تحت مسمّى “ثقب الباب التكنولوجي” الذي له عدة وظائف تهدف في المقام الأول إلى زرع الشك في قدرة المقاومة، وخاصة اللبنانية، على مواصلة دعم الفلسطينيين. ونظراً للضربات المؤلمة المتزايدة التي يتلقاها جيش الاحتلال الإسرائيلي من قبل المقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية، يمكن القول إن هذا الرهان خاسر. فقد كان للعملية الإرهابية التي طالت أعضاء سياسيين وعسكريين في المقاومة اللبنانية، واغتيال رموزها، وعلى رأسهم سماحة السيد حسن نصر الله، تأثير في زيادة تصميم المقاومة اللبنانية وحلفائها الإقليميين على القتال إلى جانب الفلسطينيين بمقدار عشرة أضعاف. وكان المقصود من إساءة استخدام التكنولوجيا لأغراض إرهابية أيضاً تخويف بكين وموسكو وشركائهما الجنوبيين، من خلال محاولة تقويض المصداقية الأمنية لسلاسل التوريد الصينية.
ومن ناحية أخرى، ومن خلال تبني المنطق القائم على القياس، تستخدم الولايات المتحدة هذه العملية الإرهابية لتبرير تكثيف الانفصال التكنولوجي الأميركي عن الاقتصاد الصيني. وهنا مرة أخرى، يبدو الرهان خاسراً، منذ تدفقت الدعوات للتحول إلى التكنولوجيا الصينية مثل ارتداد في أعقاب هذه العملية الإرهابية. ومن ناحية أخرى، فإن حقيقة ردّ إيران أخيراً على العديد من الاعتداءات الإسرائيلية تشير إلى وجود تنسيق استراتيجي وثيق بين طهران وموسكو. وفي حين أن هاتين الدولتين الرئيسيتين في المحور الأوراسي قد أخّرتا وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية الشراكة الإستراتيجية، فقد قامت طهران وموسكو بتسريع وضع اللمسات النهائية على هذه الشراكة، والتي من المقرّر التوقيع عليها في قمة البريكس المقبلة في كازان.
ربما شعرت العديد من الدول، مثل الهند وتركيا والجزائر والبرازيل، بضغوط ضمنية للامتثال للإستراتيجية الأمريكية المتمثلة في احتواء الصين ومقاطعة روسيا وإيران، ولكن حتى خارج نطاق هذه القوى، كان هدف واشنطن يتلخص في إثارة الخوف على نطاق عالمي بشأن المنتجات التكنولوجية الأخرى التي يعتمد تصنيعها على واشنطن وحلفائها.
في نهاية المطاف، ما يجب تذكره في المقام الأول من هذه الحلقة من تكنولوجيا التفجيرات الانتحارية هو أن الولايات المتحدة والدول التابعة لها، من أجل الحفاظ على هيمنتها على العالم، تتصرف الآن دون أي خط أحمر -لا قانوني ولا دبلوماسي، ولا إنساني ولا حتى أخلاقي- وهذا يوضح مدى الخطر الذي يهدّد العالم برمته اليوم.
لقد كشفت الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط عن ولع الكتلة الغربية بالظلامية المسعورة، ورفض الكتلة التعامل بطريقة حضارية مع بقية البشرية، ولا شك أن هذه التصرفات ستشكل علامة على تاريخ الغرب المنحط، الذي لم يعد يعرف كيف يدافع عن مصالحه إلا من خلال الخداع والنهب والجرائم الجماعية، بفضل وسائل الإعلام عديمة الضمير، التي يتمثل دورها الوحيد في فرض دعم الجماهير من خلال تقديمها لهم على أنهم بيض. وبالتالي، ليس من المستبعد في ظل هذه الظروف، أن يتمكّن نتنياهو من إطلاق العنان لساديته، في حين يواصل جورج إبراهيم عبد الله عامه الحادي والأربعين في السجن، لأنه تجرأ ذات يوم على احتضان القضية الفلسطينية، وهذا يجب أن يدفع الأغلبية العالمية، والصين وروسيا في المقدمة، إلى الوقوف بشكل أكثر اتحاداً من أي وقت مضى ضد الهيمنة الإمبريالية الأمريكية، التي هي ليست غير شرعية فقط، بل إن ثلثي المجتمع الدولي يرفضها لكونها تعرض بقاء البشرية للخطر.
لذلك، فإن مساهمة الهند والجزائر والبرازيل ضرورية، وإذا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها قادرين على ارتكاب إبادة جماعية أمام الكاميرا، أو زرع قنابل في الهواتف أو أجهزة الراديو أو الألواح الشمسية أو الدراجات البخارية، على نطاق دولة بأكملها، فما الذي يمنع من الاعتقاد بأنهم كذلك قادرون على محاصرة الطائرات والقطارات والقوارب والسيارات والمصاعد؟ ما الذي يمنع من الاعتقاد بأنهم قادرون أيضاً على خلق الأوبئة، أو حتى إدخال السم في لقاحات صناعة الأدوية؟ ما الذي يمنع من الاعتقاد بأنهم قادرون أيضاً على اختطاف وظائف الزراعة والمياه والصناعة الغذائية، إذا كان هذا يمكن أن يساعدهم على إيذاء خصومهم وتثبيت أنفسهم من خلال هيمنتهم على العالم بالقوة؟.
باختصار إن الإمبراطورية الأمريكية معلقة على المقصلة الإسرائيلية، تنتحر في الساحة العالمية، وقليلون هم الذين يفكرون في إنقاذها.