الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

محمد الركوعي..!

حسن حميد

حين رأيته للمرة الأولى، أحسست بارتجافة قلبي، وشرود ذهني، وقلق بصري، وجولان الحروف، التي لا تصير كلمات، في لهاتي! فها هو بكامل مهابته أمامي، يدي تمتد إلى يده الممدودة كي أسلم عليه، أصابعه التي حملت الفرشاة، وأطلقت الألوان في زنزانته، ها هي حشو أصابعي، ونظره الذي يستل الألوان من الطبيعة والمرئيات جميعاً، ها هي صورته تملأ وجهي، وابتسامة ناحلة تضيء وجهه الذي كنت تملأه في صوره، وأتحسر هاتفاً: فنان.. أسير! فنان وراء القضبان، أسير في زنزانة، أسير يأخذ مربعات القماش والخيش الصغيرة، وأكياس الخام الحافظة للرز والسكر والملح من رفاقه الأسرى، كي تصير لوحات تحكي قصصهم وأخبارهم، أسير يرسم على ضوء شمعة، أسير يرجو ذبالة شمعته أن تدوم كي لا تنطفئ قبل أن ينهي لوحته، أسير يرفع الدعاء إلى السماء من طاقة زنزانته العلوية، كي لا يدهمه حراس السجن قبل أن يرسم عين عصفوره المغرد على غصن دالية، وقبل أن يرسم دقاقة الباب النحاسية، وقبل أن يرسم ألوان علم فلسطين الأربعة. أسير، كل أقلام القاووش، تتجمع لديه، كل الشراشف المسروقة، والمخفية تصل إليه، أسير جعل من زنزانة دارة للألوان، والقماش، والأقلام، والرؤى، وقولة:
لا تحسب الأرض عن إنجابها عقرت
من كل صخر سيأتي للفدا جبل.
بلى، إنه الفنان محمد الركوع (1950-…) أستاذ الفنون في مدارس غزة نهاراً، والفدائي المشتبك، والمخطط للعمليات ضد دوريات الإسرائيليين في قطاع غزة، وقائد الاجتماعات السرية.. ليلاً.
محمد الركوعي الذي أشرف، ونفذ، وقاد عمليات عدة مع رفاقه في قطاع غزة، يقع أخيراً بين يدي الإسرائيليين، يقاد أسيراً إلى السجن، ويحكم عليه بالمؤبد، بعد أن عرف كل أنواع الضرب، والركل، والعنصرية، والوحشية الإسرائيلية، محمد الركوعي الذي جعل الزنزانة مرسماً داخلياً تعرش فيه الألوان، ولم يستطع سجانه أن يكتشف مختبره اللوني السري، وما يفكر به الفنان، ولماذا صاحب هذه الزنزانة يساهر الليل برفقة صديقته الشمعة، وقماش وسادته الأبيض على الرغم من وجود الكاميرات، وتعدد حالات المداهمة، وكثرة وجوه المراقبة والأسئلة، والممارسات القذرة، والعمل على تحطيم النفوس. محمد الركوعي كان يداوي جروحه، وأنات أعضاء جسده بالرسم، وحين تأتي الوالدة لزيارته، يهرب لوحاته إليها خلسة، وبعيداً عن الرقيب الذي يشرب الكوكاكولا قربه، تخبئ الأم العجوز لوحاته في أردان ثوبها، وقرب نحرها، تخفيها وتحرص عليها كما لو أنها الذهب، وحين تعود إلى البيت، تفتحها، كيما ترى إشراقة الضوء والأمل والجمال فيها، فلا تقول شيئاً لأنّ دمعها تغلق عليها كل الأبواب.
محمد الركوعي الذي سيغادر الزنزانة بعملية تبادل الأسرى، سيقول لنا، إنه علم بأنّ رفاقه في الشام أقاموا للوحاته، التي هرّبتها أمه، معرضاً في المركز الثقافي السوفييتي، وأنّ الخلق احتشدوا أمام لوحات الزنزانة، احتشاد الأشجار في الغابات، وعرف أيضاً أنّ حشدا من فناني سورية واقفوا اللوحات وهم يبكون لأنهم رأوا ألواناً مدهشة، وتعبيرية مدهشة أيضاً، وأدركوا رهافة الخطوط بالغة الدقة والحذق، لوحات خلقتها العزيمة لا الألوان، ولوحات حلّقت بها الإدارة رغم أنف السجان. محمد الركوعي لم يكن، وهو في سجنه، مادة إخبارية لنا، بل كان وجهاً من وجوه الأسطورة الفلسطينية العلوق بالحياة والمقاومة، والحاملة لها، مثلما كان الكتاب الوطني الذي نقرأ فيه عن صلابة رجل مكين وظّف كل ما وهبه الله له من أجل أن يصرخ بعلو الصوت: بلادي، بلادي.
لهذا، وحين خرج من الزنزانة، والتحق بنا في المنفى، كان الفدائي المكتمل في حضوره، والفنان العضوي الملتصق بما ينادي به شعبه الفلسطيني، وبما يحلم به أيضاً، وكان أيضاً روح الميثولوجيا التي رأيناها وعرفناها وهي تتجسد وتتشكل لنراها بحواسنا كلها، وبوعينا كله، وبمحبتنا كلها.
محمد الركوعي، بفنه وإرادته وصلابته ورؤيته وسلوكه الوطني.. غدا اليوم، وهنا تكمن بلاغة درس العشق الوطني، هو قائد الورش الفنية التي ترسم الحلم الفلسطيني من جهة، مثلما ترسم البقع الأرجوانية للواقع الفلسطيني من جهة أخرى، إنه، الآن ، رئيس نقابة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين، رغم أنف الإسرائيليين الذين أرادوا له الموت حياً في زنزانته وأصابعه مصبوغة بالألوان، أما هو.. فأراد المجد راية للكفاح الفلسطيني.
إنه اليوم ، كراهب ألوان، فنان عالمي، من بين أهم عشرة فنانين متابعين في العالم، لهم قضية، ولهم حلم.. لذلك كانت ارتجافة القلب حين رأيته للمرة الأولى، وكان التهيب في حضرته، وكان الفضاء دارةً لجماله. وكان التأمل الطويل لما قرّ في عينيه من ضوء عميم، و عزيمة شارقة!

Hasanhamid55@yahoo.com