أوروبا تغرق في أزماتها المتلاحقة
ريا خوري
ما زالت أوروبا تمرّ بمزيد من الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية، إضافة لأزمة فقدان ثقة المواطن الأوروبي بحكوماته شيئاً فشيئاً، حتى بدأت العديد من الأزمات تتحوّل إلى أزمات وجودية تتعلق بمستقبل دول القارة العجوز وبالاتحاد الأوروبي، من دون أن تتمكن من مقابلة التحديات المتزايدة التي تواجهها حتى اليوم.
من هنا يتضح مغزى مقولة وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد عام 2003 التي وصف بها القارة الأوروبية على أنها “القارة العجوز”، حينها لم يكن يتعمّد الإساءة إلى القارة الأوروبية وشعوبها، إنما قصد توصيف وضعها القائم وما تعانيه من كوارث وأزمات، وعدم قدرتها على التصدي للأزمات التي تواجهها، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي شكّل عند قيامه، نقلة نوعية كبيرة ومهمّة تجاه استقرار القارة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وانعكس ذلك إيجابياً على العديد من دول العالم، وتحوّل الاتحاد الأوروبي إلى نموذج يحتذى لبناء علاقات تكاملية بين دول تختلف ثقافياً وعرقياً ودينياً ولغوياً، بعد حروب ضارية بينها، أدّت إلى مقتل عشرات الملايين وتدمير مئات المدن والقرى والبلدات، وكانت الحرب العالمية الثانية آخر هذه الحروب الطاحنة.
اليوم نجد أنّ القارة الأوروبية تواجه العديد من التحديات، أهمها الحرب الروسية- الأوكرانية، والخلافات حول توسيع الاتحاد الأوروبي، والانقسامات الحادّة حول تعزيز سياسة الدفاع المشترك، وتصاعد المدّ اليميني الشعبوي المتطرف المعادي للهجرة، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية المتزايدة، وشحّ إمداداتها من الطاقة والوقود، وصولاً إلى الاحتجاجات والإضرابات جراء ارتفاع مستويات التضخم النقدي وغلاء المعيشة، وهذا ما حدا بالرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، ورئيس الوزراء الإيطالي السابق، ماريو دراغي إلى أن يصدر تحذيراً شديد اللهجة بشأن التدهور الاقتصادي المتزايد في القارة الأوروبية العجوز، واصفاً الوضع بأنه “معاناة بطيئة” ناجمة عن سنوات من التقصير والإهمال الاقتصادي والاستثماري.
هذا التحذير جاء مؤكداً على حالة التدهور الاقتصادي بالقارة العجوز، بما في ذلك حادث انهيار أجزاء من جسر كبير في مدينة دريسدن بألمانيا، لم يسفر عن إصابات لكنه يعكس الواقع الذي يواجهه الاقتصاد الأوروبي وفق ماريو دراغي، حيث يشير إلى الفشل في الاستثمار بشكل كافٍ في البنية التحتية والصيانة، كما أوضح ذلك ضمن تقريره المفصل. ووفقاً للتقرير، فإن أوروبا تحتاج إلى استثمارات إضافية تصلّ إلى ثمانمائة مليار يورو (نحو ثمانمائة وواحد وثمانين مليار دولار أمريكي) سنوياً لتعزيز اقتصادها المتدهور.
هناك جانب مستجد من الأزمة الأوروبية، لم يكن موجوداً في السابق، فهناك الأزمة الاقتصادية الحادّة التي اتسعت مع الحرب الأوكرانية، حيث بلغ الركود الاقتصادي والتضخم النقدي مستوياته القصوى مع ارتفاع أسعار الطاقة، من نفط وغاز نتيجة وقف الإمدادات الروسية، إضافة إلى الالتزامات المالية الأوروبية الكبيرة تجاه أوكرانيا التي باتت تشكل نزيفاً للاقتصاد الأوروبي، والتي أرهقت ميزانيات دولها التي لم يعد بمقدورها تنفيذ برامج اقتصادية واجتماعية تخدم المواطن الأوروبي على وجه التحديد، الأمر الذي أدّى إلى تظاهرات واحتجاجات نقابية للعمال والمزارعين في أكثر من دولة من دول الاتحاد الأوروبي.
كما أنّ الدول الأوروبية مازالت تعاني انقسامات حادة وفقدان البوصلة تجاه استمرار دعم أوكرانيا، وتجاه الأمن الأوروبي الاستراتيجي وكيفية تعزيزه، حيث يبرز الخلاف بين دول أوروبا الشرقية التي تراهن على المظلة الأمريكية من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ودول غرب أوروبا مثل ألمانيا الاتحادية وفرنسا اللتين تدعوان إلى تشكيل قوة أوروبية موحّدة.
بعد قراءة المشهد الاقتصادي الأوروبي وانعكاسه السلبي على السياسة والمجتمع نجد أنّ أوروبا ليست في أحسن حالاتها، إنها تشيخ سياسياً واقتصادياً بشكلّ متسارع بالتزامن مع تصاعد نسبة الشيخوخة بين مواطنيها، إذ إن هناك أكثر من اثنين وعشرين بالمائة من الأوروبيين أصبحت أعمارهم تتجاوز الـ65 عاماً، وهي نسبة ما زالت في تزايد مستمر.