دراساتصحيفة البعث

من فيتنام إلى غزة.. إضاءة على سيناريو الإبادة الجماعية

سمر سامي السمارة

يقول الصحفي والكاتب الأمريكي” كريس هيدج” إن الإبادة تنجح في المدى القريب، وهذا هو الدرس المرعب الذي يقدمه لنا التاريخ، فإذا لم يتم إيقاف “إسرائيل”، ولم تظهر قوة خارجية على استعداد لوقف الإبادة الجماعية في غزة وتدمير لبنان، فسوف تحقق “اسرائيل” أهدافها المتمثلة في إخلاء شمال غزة وضمها، وتحويل جنوب غزة إلى مقبرة يتم فيها حرق الفلسطينيين أحياءً، وتدميرهم وجعلهم ويموتون من الجوع والأمراض المعدية، حتى يتم طردهم من أرضهم.

من الواضح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته لا يختلفان عن أولئك الذين يخططون سياسة الشرق الأوسط في البيت الأبيض مع أنتوني بلينكين الذي نشأ في أسرة صهيونية متشددة، وبريت ماكغورك، وأموس هوكشتاين، الذي ولد في “إسرائيل” وخدم في جيش الاحتلال، وجيك سوليفان، حيث أن الجميع يؤمنون إيماناً قوياً بأن للعنف قدرة على تشكيل عالم بما يتناسب مع رؤيتهم المجنونة.

وعلى الرغم من أن هذا المبدأ تعرض للفشل الذريع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم ينجح في أفغانستان ولا في العراق وسورية وليبيا، وقبل جيل من ذلك في فيتنام، ومع ذلك فإن هذا الفشل لم يردعهم عن الاستمرار في ممارسة هذا العنف.

يرى هيدج إن تقديراتهم صحيحة في الأمد القريب، خاصة مع استمرار الولايات المتحدة و”إسرائيل” في استخدام ترسانتهما من الأسلحة الصناعية لقتل المزيد من الأبرياء وتحويل المدن إلى أنقاض، لكنهم يتناسون أن هذا العنف العشوائي في الأمد البعيد،  يخلق أعداءً نسميهم فيما بعد بالإرهابيين، فالكراهية والرغبة في الانتقام تنتقلان من جيل إلى آخر مثل الإكسير السام، فقد كان ينبغي لتدخلاتنا الكارثية في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا واليمن، إلى جانب غزو “إسرائيل” للبنان في عام 1982، أن تعلمنا هذا.

يبدو أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا تريد أن تتعلم الدروس، فقد تصورت إدارة بوش أنه سيتم الترحيب بهم في العراق كمحررين، بينما أمضت الولايات المتحدة أكثر من عقد من الزمان في فرض عقوبات أسفرت عن نقص حاد في الغذاء والدواء، ما تسبب في موت مليون عراقي على الأقل، بما في ذلك 500 ألف طفل، والتي على أثرها استقال منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق دينيس هاليداي، واصفاً العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على العراق، بـ”الإبادة الجماعية” لأنها تمثل “سياسة متعمدة لتدمير شعب العراق”.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سيستمر المجتمع الدولي في الوقوف موقف المتفرج السلبي، ويسمح “لإسرائيل” بتنفيذ حملة إبادة جماعية؟ أم أن العدوان على لبنان وإيران ستوفر ستاراً دخانياً يخفي الانتهاكات التي تُرتكب من خلال أسوأ حملات التطهير العرقي والقتل الجماعي التي تشنها “إسرائيل”  والتي تتم دوماً تحت غطاء الحرب، لتحويل ما يحدث في فلسطين إلى نسخة محدثة من الإبادة الجماعية للأرمن؟

من المرعب أن حمام الدم سيستمر في التدفق، خاصة أن جماعات الضغط الإسرائيلية اشترت ودفعت أموالاً للكونغرس وللحزبين الحاكمين، فضلاً عن ترويع وسائل الإعلام والجامعات، فثمة الكثير من الأموال يمكن كسبها من الحرب، وسوف يشكل تأثير صناعة الحرب، المدعومة بمئات الملايين من الدولارات التي أنفقها الصهاينة على الحملات السياسية،عائقاً هائلاً أمام السلام.

كتب تشالمرز جونسون في كتابه ” من العدو: الأيام الأخيرة للجمهورية الأميركية”: ما لم نلغِ وكالة الاستخبارات المركزية، ونعيد جمع المعلومات الاستخباراتية إلى وزارة الخارجية، ونزيل كل الوظائف باستثناء العسكرية البحتة من البنتاغون،  فإننا لن نعرف السلام مرة أخرى، ولن نستمر على الأرجح كأمة لفترة طويلة.

تتم الإبادة الجماعية عن طريق الاستنزاف، وبمجرد تجريد مجموعة مستهدفة من حقوقها فإن الخطوات التالية هي تهجير السكان، وتدمير البنية الأساسية، وقتل المدنيين بالجملة، كما تهاجم “إسرائيل” وتقتل المراقبين الدوليين، ومنظمات حقوق الإنسان، وعمال الإغاثة، وموظفي الأمم المتحدة، وهي سمة من سمات معظم عمليات الإبادة الجماعية، كما يتم اعتقال الصحفيين الأجانب واتهامهم “بمساعدة العدو”، في حين يتم اغتيال الصحفيين الفلسطينيين وإبادة أسرهم.

تنفذ “إسرائيل” هجمات متواصلة في غزة على وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسط (الأونروا)، حيث تضررت أو دمرت ثلثي منشآتها، واستشهد أكثر من 220 من موظفيها، كما هاجمت قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، التي تعرض أفرادها لإطلاق النار والغاز المسيل للدموع والإصابات.

لقد اكتملت هذه المراحل الأولية في غزة، أما المرحلة الأخيرة فهي الموت الجماعي، ليس فقط بالرصاص والقنابل، بل والمجاعة والمرض، فقد منعت “إسرائيل” وصول الطعام إلى شمال غزة منذ بداية هذا الشهر، وأسقطت منشورات تطالب الجميع في الشمال بإخلاء منازلهم، حيث يتعين على 400 ألف فلسطيني في شمال غزة مغادرة منازلهم أو الموت، كما أمرت بإخلاء المستشفيات ونشرت طائرات بدون طيار لإطلاق النار عشوائياً على المدنيين، بما في ذلك أولئك الذين يحاولون نقل الجرحى للعلاج، وقصفت المدارس التي تعمل كملاجئ وحولت مخيم جباليا للاجئين إلى منطقة إطلاق نار حر.

وكالعادة، تواصل “إسرائيل” استهداف الصحفيين، وتشير تقديرات وزارة الصحة الفلسطينية إلى أن ما لا يقل عن 175 صحفياً وعاملاً في مجال الإعلام استشهدوا على يد القوات الإسرائيلية في غزة منذ 7 تشرين الأول.

كما حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية من أن شحنات المساعدات إلى كافة أنحاء غزة وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ شهور، مشيراً إلى أن الفلسطينيين استنفدوا كل السبل للتكيف، وانهارت أنظمة الغذاء، ولا يزال خطر المجاعة قائماً.

إن الحصار الشامل المفروض على شمال غزة سوف يفرض في المرحلة التالية على جنوب غزة، وهذا يعني المزيد من الموت،  حيث سيكون التجويع السلاح الأساسي، كما هو الحال في الشمال.

تراهن “إسرائيل” على خلق كارثة إنسانية حتى تتمكن من إخلاء غزة ومواصلة  التطهير العرقي في الضفة الغربية، ومع ذلك يتذمر وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش علناً من أن الضغوط الدولية تمنع “إسرائيل” من تجويع الفلسطينيين.

في السياق، رصد الفيلم الوثائقي “فعل القتل” للمخرج جوشوا أوبنهايمر، السيكولوجية المظلمة التي يتسم بها مجتمع ينخرط في الإبادة الجماعية ويقدس القتلة الجماعيين، يقول أوبنهايمر: “إننا فاسدون مثل القتلة في إسرائيل، فنحن نميل إلى إضفاء طابع الأساطير على الإبادة الجماعية التي ارتكبناها ضد الهنود الحمر، ونضفي طابعاً رومانسياً على قتلتنا، ومسلحينا، والخارجين عن القانون، والميليشيات، ووحدات سلاح الفرسان، ونقدس الجيش”، مضيفاً، إن عمليات القتل الجماعي التي ارتكبناها في فيتنام وأفغانستان والعراق، والتي أطلق عليها عالم الاجتماع جيمس ويليام جيبسون “الحرب التكنولوجية” تعرَف العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، وتركز الحرب التكنولوجية على مفهوم “الإفراط في القتل”، بما يترتب عليه من أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين، مبرر باعتباره شكلاً فعالاً من أشكال الردع.

“إننا مثل إسرائيل”، كما يشير نيك تورس في كتابه “اقتلوا أي شيء يتحرك: الحرب الأميركية الحقيقية في فيتنام”، عمدنا إلى تشويه وإساءة معاملة وضرب وتعذيب واغتصاب وإصابة وقتل مئات الآلاف من المدنيين العزل، بما في ذلك الأطفال. مضيفاً أن المذابح كانت نتيجة حتمية لسياسات متعمدة، أملتها أعلى مستويات الجيش.

يضيف تورس أن العديد من الفيتناميين، مثل الفلسطينيين الذين لقوا حتفهم، تعرضوا في البداية لأشكال مهينة من الإساءة العامة، فعندما اعتقلوا لأول مرة حُبِسوا في أقفاص صغيرة ذات أسلاك شائكة، وكانوا يُطعنون بعصي الخيزران الحادة.

وكان المعتقلين الآخرين يُوضَعون في براميل كبيرة مملوءة بالماء، ثم تُضرب الحاويات بقوة كبيرة، ما يتسبب في إصابات داخلية ولكنها لا تترك أي ندوب، كما تعرضوا للضرب على باطن أقدامهم، وبتر أصابعهم والطعن بالسكاكين، أو الحرق بالسجائر، أو الضرب بالهراوات، أو العصي، وغيرها من وسائل التعذيب.

تعرض العديد منهم للتهديد بالقتل أو حتى الإعدام الوهمي، وقد وجد تورس أن المدنيين المعتقلين والمقاتلين الأسرى كانوا يستخدمون في كثير من الأحيان ككشافات ألغام بشرية، الأمر الذي يؤدي إلى موتهم، وفي حين كان الجنود ومشاة البحرية منخرطين في أعمال وحشية وقتل يومية، كانت وكالة الاستخبارات المركزية “تنظم وتنسق وتدفع” برنامجاً سرياً للاغتيالات المستهدفة لأفراد محددين دون أي محاولة للقبض عليهم أحياء أو أي تفكير في محاكمة قانونية.

“بعد الحرب”، يخلص تورس: “لقد اعتبر معظم الباحثين أن روايات جرائم الحرب المنتشرة التي تتكرر في المنشورات الثورية الفيتنامية والأدبيات الأميركية المناهضة للحرب مجرد دعاية، ولم يفكر سوى عدد قليل من المؤرخين الأكاديميين في الاستشهاد بمثل هذه المصادر، ولم يفعل أي منهم ذلك على نطاق واسع. وفي الوقت نفسه، أصبحت مذبحة ماي لاي رمزاً لجميع الفظائع الأميركية الأخرى، وبالتالي محوها.

والآن تمتلئ أرفف الكتب التي تتناول حرب فيتنام بصور تاريخية كبيرة، ودراسات رصينة للدبلوماسية والتكتيكات العسكرية، ومذكرات قتالية تُروى من منظور الجنود. وبعد أن دُفنت في أرشيفات الحكومة الأميركية المنسية، وفي ذكريات الناجين من الفظائع، اختفت الحرب الأميركية الحقيقية في فيتنام تقريباً من الوعي العام.

يضيف تورس، لا يوجد فرق بيننا وبين “إسرائيل” ولهذا السبب لا نوقف الإبادة الجماعية، إن “إسرائيل” تفعل بالضبط ما كنا لنفعله لو كنا مكانها، فشهوة “إسرائيل” للدماء هي شهوتنا نحن.

يشكل فقدان الذاكرة التاريخية جزءاً حيوياً من حملات الإبادة بمجرد انتهائها، على الأقل بالنسبة للمنتصرين، ولكن بالنسبة للضحايا، فإن ذكرى الإبادة الجماعية، هي دعوة مقدسة.

لقد أثارت الإبادة الجماعية الإسرائيلية غضب 1.9 مليار مسلم في جميع أنحاء العالم، فضلاً عن معظم دول الجنوب العالمي، كما أدت إلى تأجيج صفوف المقاومة الفلسطينية، وحولت “إسرائيل” والولايات المتحدة إلى “دولتين” منبوذتين، وفي نهاية المطاف، ستوقعان على حكم الإعدام.