دراساتصحيفة البعث

التجويع القسري في غزة.. أسلوب أمريكي للإبادة الجماعية

عناية ناصر

في العام الذي تلا عملية طوفان الأقصى التي شنّتها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول 2023، استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي، وفقاً لوزارة الصحة في غزة، ما يقدّر بنحو 41200 فلسطيني، بما في ذلك 16700 طفل، لكن أظهرت مقالة حديثة نشرتها مجلة “لانسيت” أن حصيلة الضحايا الحقيقية في غزة أعلى بكثير، وهي أكثر من 186000، عند حساب الضحايا كنتيجة غير مباشرة للصراع.

مما لا شكّ فيه أن النقص الحاد في الغذاء يشكل عاملاً مساهماً، حيث منع الحصار الإسرائيلي، وحملة القصف المدمّرة دخول المساعدات الإنسانية وتسليمها. ونتيجة لذلك، وجد برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن 96٪ من سكان غزة يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، حيث يعاني أكثر من مليوني شخص من مستويات حرجة من الجوع أو ما هو أسوأ، وهذا هو التجويع القسري، وهو تكتيك معروف للإبادة الجماعية، وهو تكتيك مألوف لدى الأمريكيين.

لقد تعلّم العديد من الأمريكيين عن هذه القسوة لأول مرة في المدارس الابتدائية، حيث تشرح الكتب المدرسية كيف بدأ الجيش الأمريكي في أوائل القرن التاسع عشر في تهجير السكان الأصليين بشكل منهجي لسرقة أراضيهم. وقد تضمّن هذا الجهد تكتيكات تهدف إلى التسبب في المجاعة، من ذبح الملايين من الجواميس إلى إجبار هذه المجتمعات على العيش في قطع صغيرة من الأرض، بهدف إضعاف عزيمتهم. وحتى المناطق الآمنة المزعومة تعرّضت للهجوم، كما حدث عندما قام الجيش الأمريكي بذبح نحو 300 شخص من  سكان لاكوتا في عام 1890.

وتتبع قوات الكيان الإسرائيلي نهجاً مماثلاً في غزة، حيث قامت بقصف منطقة آمنة إنسانية باستخدام أسلحة أمريكية الصنع، مما أسفر عن استشهاد ما لا يقلّ عن 40 شخصاً يعيشون في خيام. كما استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي العاملين في مجال الرعاية الصحية والمساعدات، مما أسفر عن استهداف أكثر من 1000 منهم، بما في ذلك سبعة أعضاء من فريق  منظمة “المطبخ المركزي العالمي” الذين تعرّضوا للهجوم أثناء تسليم الطعام.

لفهم عواقب هذه السياسات التوسعية والهيمنة، لا يحتاج المرء النظر إلا إلى الولايات المتحدة، حيث تشكل الإبادة الجماعية صدمة تاريخية ويمكن اعتبارها “جرحاً في الروح”، حيث  لا يزال يتردّد صداها بين السكان الأصليين حتى الآن، حيث أدّى إنشاء نظام المحميات، ونقص توفير الغذاء، وغير ذلك من أعمال التطهير العرقي في القرن التاسع عشر إلى تآكل السيادة الأصلية.

ويمكن رؤية هذا الإرث بوضوح في الإسكان المتدني اليوم، والرعاية الصحية غير الكافية، وبرامج التعليم غير الممولة بشكل كافٍ للمجتمعات الأصلية الفقيرة في أمريكا. وعلى نحو مماثل، ألحق نظام المدارس الداخلية للأمريكيين الأصليين، الذي حفزته سياسات الاستيعاب الفيدرالية، الضرر بعشرات الآلاف من الأطفال، مما جعلهم أكثر عرضة للاكتئاب والانتحار والإدمان، والتي يمكن أن تنتقل من جيل إلى جيل.

وعلاوة على ذلك، ظلت معدلات انعدام الأمن الغذائي بين المجتمعات الأصلية في الولايات المتحدة تدور حول 25% لسنوات عديدة، ولكنها وصلت إلى 77% بين شعب نافاجو، وأكثر من 90% بين أمم حوض نهر كليماث في جنوب ولاية أوريغون.

وعلى النقيض من ذلك، كان 13.5% من الأسر الأمريكية تعاني من انعدام الأمن الغذائي في عام 2023، وفقاً لتقرير صادر عن دائرة البحوث الاقتصادية التابعة لوزارة الزراعة الأمريكية، وهذا المعدل أقل بين الأمريكيين البيض، عند 10%.

لقد أظهر انعدام الأمن الغذائي بين النساء والأطفال في الولايات المتحدة على مدى ربع القرن الماضي، المعاناة والصعوبات  الكبيرة التي واجهتها العديد من النساء السود والنساء الملونات في كفاحهن لإطعام أسرهن، والتي تعادل خمسة أجيال.

لقد تشكّلت هذه المسارات من خلال تاريخ أمريكا من العبودية والإبادة الجماعية، والتي أطلقت العنان لدورات من العنصرية والتمييز التي لا تزال مستمرة حتى اليوم. إن الأضرار الأصلية متغلغلة  في الحياة الأسرية الأمريكية من خلال انخفاض الأجور للأشخاص الملونين، وسياسات الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية ورعاية الأطفال التمييزية عنصرياً.

واستناداً إلى ذلك ينبغي أن يعالج صنّاع السياسات السبب الجذري للجوع في الولايات المتحدة: التعرض للعنف العنصري والجنسي في الأسرة والمجتمع، والذي يمكن إرجاعه إلى إرث أمريكا من العبودية والإبادة الجماعية. ولم تكفّر حكومة الولايات المتحدة عن خطاياها الماضية، وإلى أن تعيد الأرض وتدفع التعويضات، فإن هذه الصدمات الأصلية ستظلّ دون علاج، وسيستمر انعدام الأمن الغذائي.

إن مشاهدة المجاعة والمعاناة في غزة اليوم تذكر بالعواقب الدائمة للتاريخ الانقسامي لأمريكا. وينبغي للصدمة أن تجبر صنّاع السياسات الأمريكيين على التساؤل عن كيفية إنهاء هذه القسوة والبدء في إصلاح الأمور. وكما حدث في غزة، فإن “وقف إطلاق النار” الفوري سيكون بداية جيدة، ولكن المهمّة الأكثر صعوبة والأكثر إلحاحاً بالنسبة للإدارة الأمريكية هي تحويل الأموال التي تنفق على القنابل والأسلحة إلى برامج اجتماعية من شأنها توفير الغذاء والتعليم والرعاية الصحية للجميع.