الكاتبة التي صدمتني رجولتها!
وجيه حسن
صديقتي الكاتبة التونسيّة “حياة الرّايس”، التي لا أعرفها، والأنثى التي صدمتني رجولتها النّاضجة، والمرأة الأديبة – الكاتبة المتفتّحة على نوافذ الحياة المُشرَعة، والتي أعجبتني أفكارها المُستنيرة عبر أمواج الأثير بتلك المقابلة الثلاثيّة الماتِعة، مع المذيع التونسيّ المتألّق “حبيب جغام”، في برنامجه النّاجح “أصداء الليل”، والكاتبة الجزائريّة المعروفة “أحلام مستغانمي”، المولودة في تونس، والمقيمة اليوم في بيروت، الجرح النّازف ــ المُعافى، والجزائريّة الأصل والجذور..
لست أدري أيّتها الكاتبة الروائية “حياة”، التي لا أعرفها، وبعمري ما رأيتها، أنا الشرقيّ الذي قدمت تونس الخضراء للعمل بإحدى المنظمات العربية فيها، أقول لست أدري أيتها الصديقة، كيف أنّ عقلي تشرّب كلماتك النديّة، الغنيّة، النّاضِحة فكراً، ونبضاً، وحياةً، وثقافة..
أثارتني كلماتك، بلْ راقت لي، وأنتِ تطلبين من (وزارات الثقافة) العربيّة، أن تكون هديّة الكاتب العربيّ – إذا نال فوزاً ما عن رواية، أو مجموعة قصصيّة، أو ديوان شعر، أو كتاب، أو دراسة قيّمة – “سريراً” تستطيع الكاتبة من خلاله ممارسة “جريمة الكتابة”، فـ “السّرير”، هو المحطّة الأخيرة للمرأة الكاتبة بعد عناءِ يوم بطوله.. وبه، وفيه، يمكن لها أنْ تكون بعيدة عن صخب البيت، وأواني المطبخ، وتلفاز صالون الضّيوف، وبعيدة كذلك عن ضوضاء المكتب في وظيفتها ودائرتها، بل وبعيدة عن صخب الكون، وخربشات المخربشين، وتقوّلات المتقوّلين..
وأعجبني بالفعل طرحك المشروع، وأنت تطالبين الجهاتِ المعنيّة، بأن يحترموا المرأة الكاتبة، وأن يثمّنوا دورها وأوقاتها، وحالات استنفارها، وهي تبدع لهذا المجتمع/ الوطن، لهذا العالم شيئاً ثميناً، تغيّر به من خلال سلاحها “القلم” كثيراً من غثّ الفكر والدّماغ، ومن خزعبلات الحياة وتفاهاتها، حتى نخرج إلى مجتمع جديد، جميل مُعافىً من العِلل والأمراض.. ننعم فيه جميعاً بكثيرٍ من رحيق الحياة وجمالها.. وحضورها الغنيّ الآسِر!
وفي الطّرح المطلبيّ الثالث، شممت الكثير من عصير العتب على أُسرنا العربيّة بصورة عامّة، كيف أنّها، لم تكتشف حجم المعاناة التي يتكبّدها الكاتب، وعلى وجه التّحديد: “المرأة الكاتبة”، حيث الأعباء الأسريّة، تفرض عليها كمّاً هائلاً من عُمْلة الوقت والجهد والتّعب..
ورأيتُك.. ومن تضاعيف الحوار الثلاثيّ، المُستأنِي المثمر، أنك تطلبين من الجهات المعنيّة كذلك، أنْ يفرزوا لكلّ كاتبةٍ، إنسانةً أخرى، “إندونيسيّة مثلاً، أو فلبينيّة”، تقف إلى جانبها أُسَريّاً، تأخذ عنها كتفاً، وتتحمّل شطراً من أعباء البيت وهمومه وصخبه، على ألا تتحمّل الكاتبة أيّ عبءٍ ماديّ، إذ على الجهات المعنيّة المسؤولة، يقع عبء الدّفع، وتسديد الأتعاب والأجور..
والغاية من هذا المطلب الجوهريّ والمهمّ، هو أنْ تتفرّغ المرأة الكاتبة لممارسة “جريمة القراءة”، وعمليّة “الكتابة الانتحاريّة”، ومواظبة “مهنة الوجع المُسْتحَبّ”!
فالكتابة هي الأخرى “جريمة قرائيّة”، كما أنّ القراءة “انتحار”، لكنّه انتحار فرديّ بإرادةٍ مُسبقة الصُّنع، فيه عصارة الانتشاء والزّهو، وفيه صياغة جديدة للكثير من الرّؤى والأفكار، وإضاءة واضحة للعديد من البقع المعتمة التي تعشّش خيوطها العنكبوتيّة في عمق الأعماق..
وتطرح الكاتبة “أحلام مستغانمي”، وبأعلى الصّوت، ودونما مُوارَبة هذين السّؤالين: “ما الجريمة التي اقترفتها المرأة العربيّة، إذا كان قدرُها هو الذي صاغها كاتبة، وشكّلها مُبدعة”؟ “ما جريمتها الجنائيّة، وهي تغرس ريشة قلمها بمداد الرّوح، وحبر الشّرايين، لتبدعَ للقرّاء فنّاً أدبيّاً، كلاميّاً، فكريّاً، يرسم للآخرين معالم الطريق، ويضع صُوىً على الدّرب، يتغيّا الأحسن، والأنظف، والأجمل”؟!
كما أعجبني حديثك يا “أحلام”، بأنّ انصرافك إلى الرّائي (التّلفاز) لمتابعة مسلسل من المسلسلات، أو برنامج من البرامج، إنّما هو “استراحة مجانيّة” مهدورة من وقت الكتابة أو القراءة، وهمومهما الثقيلة ــ المُسْتحبّة، ولكنْ لا غنى عن هذه الاستراحة المجّانيّة بين الفينة والأخرى من أجل تجديد الخلايا، وتوليد أفكار وخواطر من نفْس الكاتب المُتوفّزة الوثّابة..
وفي ذلك الحوار الماتِع الشّائِق، قرأت بأذنيّ اللّاقطتين، بأنك يا “حياة” لستِ من أنصار إضاعة الوقت الثمين في زيارات وثرثرات نسائيّة لا تُغني ولا تُسمن، ولا تعيد لوطننا المُتعَب ابتسامته المهاجرة، وشبابه الغائب!
وفي خضمّ الحوار المُتواشِج، أكبرتُ فيك يا “أحلام” عشقك المائِز للكتاب، وأعجبت بهذا الحلم المشروع الذي يقضّ مضجعك، وهو أنْ يتسنّى لك الوقت الكافي، لتستيقظي في البُكْرة لتتناولي كتاباً، تكون أسطره “قهوة الصّباح”، وحلمك ألّا يوقظك أحدٌ من حلم القراءة هذا.. لا الأولاد وهم يريدون مَن يوقظهم، ومَنْ يجهّزهم للذّهاب إلى المدرسة.. ولا العائلة.. ولا الوظيفة.. ولا الدّوام.. ولا زحمة المواصلات في ساعات الصّباح الأولى.. ولا أصوات بائعي الحليب أو الخضراوات، أو “ترانيم” بائعي المناديل.. ولا أيّة مسؤوليّة أخرى ضاغِطة..
وأنا مع رجائك وحلمك المُبرَّرَين، بأنْ يتركوا للكاتب المُبدع ــ في شرق هذا الوطن وغربه ــ فرصاً سانحة، وأوقاتاً طيّبة مُثمرة للكتابة، وعليهم أن يقدّروا قيمة الكاتب/ الكاتبة، حين يكون كاتباً مُبدعاً ملتزماً، يحترم شرف مهنته، وقدسيّة الكلمة، وعظَمة القلم، وأنْ يحترموا حريّة قلمه وفكره، وألّا يلطّخوا وجهَيهما باليُود، وكُتل الطين، وسَيْل الاتهامات الباطلة..
إنّ من حقّ الكاتب المبدع، المؤمن بدور الكلمة، ومسؤوليتها وشرفها، ولزومها والتزامها أقول، كما قلت، من حقّه أن يعيش– كي يكتب – متنفّساً حريته دونما قيود، أو حواجز، باحثاً في قراءاته وكتاباته الإبداعيّة عن مستقبلٍ آمنٍ لوطنٍ غالٍ عزيزٍ يعشقه الكاتب، ويعيش في جوّانيّته مع كريّاته الحُمر والبِيض، يتنفّسه بشرايينه، ويبكيه بأوردته إذا حَزَبَهُ أمر، أو دهمته مصيبة!
فهل تقبل الأديبة التونسيّة “الرّايس”، التي سمعت صوتها عبر برنامج “أصداء الليل” من إذاعة تونس، أنْ تعيرني بعضاً من عصائر مجهوداتها الكتابيّة، لأقرأ أفكارها بعين البصر والبصيرة، ومن نقطة الوعي والتّركيز، وعن كثبٍ ومقاربة؟
واعذريني أيّتها الكاتبة “أحلام” التي احترمتها من خلال كلماتها عبر الأثير، ومن خلال كتبها المنشورة في مكتبات الوطن من أقصاه إلى أدناه، إذا كان في حديثي بعض الشّطط، أو الإطناب، أو التّهويل، وأنا بانتظار بعض من عصارة قلمك الريّان، وفكرك النديّ!
ولكِ أيّتها الأديبة التونسيّة “حياة”، إضمامة ورد نيسانيّة، على جماليّة تلك المقابلة الإذاعيّة الضّافِية، من إنسان عربيّ من الشرق، أحَبَّ الحرف العربيّ النّابض بصرخة الحقّ، وعبير الصّدق، بحثاً عن مجتمع عربيٍّ آتٍ وضِيء، ينعم فيه أطفالنا عامّة بكثير من البراءة، والتربية، والكبرياء.. وننعم في جنباته ــ نحن الكبار ــ بكمٍّ وافرٍ من النّقاء والإنسانيّة، ومحبّة الوطن، والآخر، وعشق الكتب والمكتبات بآنٍ معاً..