التراث المادي لدمشق القديمة برؤية فناني فريق “ياسمين الشام”
ملده شويكاني
“أنا الجامع الأموي والكنيسة المريمية
أنا مهاجرين باب توما أنا شاغور الصالحية
أنا الدهر والعصور… أنا لؤلؤة في العين”
هذا ما قاله نزار قباني عن معالم دمشق المدينة الخالدة التي وصفها كثيرون، واستمدّ فنانون من سحرها لوحاتهم، وفي كل معرض يتجدّد العشق، وتزداد تألقاً بعيون الزائرين، فقدم فريق فناني “ياسمين الشام” معرضاً جديداً بعنوان “دمشق عاصمة التاريخ” في المركز الثقافي العربي -أبو رمانة- بإشراف ومشاركة المهندس الفنان محمد دبور مع علي السعدي وموفق المصري ومحمد غنيم ومحمد زين كوكي.
ورسم كلّ واحد منهم دمشق القديمة من رؤيته وبصمته الخاصة ضمن إطار المدرسة الواقعية المتداخلة بجزء بسيط من الواقعية التعبيرية بتجسيد المارة، فرسموا الجامع الأموي وسوق الحميدية وحارات دمشق وأقواسها مع جزئيات البيت الدمشقي، وعكس المعرض ككل الطابع الجمالي والتوثيقي لدمشق ولطرازها المعماري الفريد.
فشغلت لوحات محمد دبور المتميزة بألوانها الترابية الممتزجة باللون الأصفر حيزاً من المعرض بأسلوبه الواقعي المتمثل حارات دمشق، مثل حارة الصواف والإيمرية والعمارة والورد والسبع طوالع، مركّزاً في بعضها على المقاطع الطولية التي تظهر امتداد البيوت المتلاصقة بتفاصيل الباب الخشبي والنباتات المعرشة على سطحه وجانبيه، ومشيراً إلى أنه تمّ الاتفاق مع الفريق المكوّن من خمسة فنانين يتبعون النهج الفني ذاته لدمشق القديمة، بغية تسليط الضوء على دمشق عاصمة الحضارة والتاريخ، والتي تعاقبت عليها عصور متعدّدة وتعرّضت لأزمات وحروب، لكنها في كلّ مرّة تنهض من جديد، فنعمل على إظهار حضارة دمشق، وفي الوقت ذاته الحفاظ على تراثها الذي يعبّر عن هويتنا.
كما أخذت لوحات الفنان علي السعدي مساحة كبيرة واتسمت بتصوير دقيق لحارات الشام وبيوتها وأسواقها، فتألقت لوحته عن مدخل سوق الحميدية بعهده القديم، والملفت هو رسمه الواقعي وتلوينه بألوان مغايرة، إذ أضفى على إحدى اللوحات تدرجات الرمادي، وفي أخرى هيمن اللون البنفسجي على الحائط الخارجي للبيت وعلى سطحه، بينما اكتست حارة مجاورة بمزيج من الأزرق والبنفسجي الفاتح، فعلل ذلك بأنه كسر للمألوف، كما أظهر مشهداً تعبيراً بحركات بعض المارة.
في حين تميّزت لوحات محمد زين كوكي بتركيزه على الحجارة الأرضية المربعة للحارة وللحائط الخارجي للبيوت مظهراً جمالية العمارة الدمشقية ومئذنة الجامع من رؤيته التي لا تخلو من إضافات بسيطة، وعقّب بأنه يرسم بواقعية من مشاهداته المباشرة أو من التقاطه الصورة أثناء تجواله في دمشق القديمة مضيفاً شيئاً من ذاكرته ومخيلته.
وفي إحدى لوحات موفق المصري جسّد حركات المارة في مقطع طولي للحارة والمقهى وكيفية جلوس مرتاديه بحالات تأملية، وبدت جمالية الجزئيات بلوحة الحائط وعقارب الساعة والمصباح والنوافذ الخشبية والنباتات اليانعة التي أضفت سحرها على المكان.
وفي لوحة أخرى تناول الزجاج الدمشقي المعشّق إحدى المهن التراثية الدمشقية التقليدية، إلا أن لوحته الملفتة كانت بتجسيد لقطة قريبة لبيت كبير في حارة الإيمرية، مبيناً تشققات الزمن على الحائط واهتراء بعض القطع من الخشب الذي يغطي النافذة، وبيّن في أخرى جمالية القناطر النباتية التي تربط بين البيوت المتوازية على جانبي الحارة.
الواقعية الجميلة بدت بلوحات محمد غنيم بلوحة كبيرة للمسجد الأموي الكبير بفنائه الرخامي وأعمدته وقببه ومئذنته، بالإضافة إلى حارات دمشق بألوانها الواقعية.
كما ألقى الباحث الفنان المتخصص بتاريخ دمشق محمد دبور محاضرة مطوّلة بعد الافتتاح، بعنوان “الأبنية العمرانية التاريخية في دمشق” بإدارة الباحث الدكتور فرحات الكسم، اتخذت الطابع التاريخي والتوثيقي الدقيق لتاريخ مدينة دمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، ولتراثها المادي، ولتطور التوسّع العمراني.
وشرح أبرز معالمها المرتبطة بمراحلها التاريخية، ولم تخلُ من ذكر بعض تفاصيل تراثها اللامادي مثل الطقوس التي يتبعها الدمشقيون في حماماتها الشهيرة والتي أصبحت جزءاً من العادات الدمشقية، فتكامل التراث المادي مع اللامادي في مواضع، مبتدئاً بالأصول التاريخية لاسم مدينة دمشق التي تعدّ جدة المدن، ومن ثم تابع عن أهمية موقعها وسرد التسلسل التاريخي لعمارتها عبْر تتابع الحضارات، ومن أهم المراحل التي ذكرها جمالية الطراز المعماري في عهد المماليك الذي ارتبط بفنون العمارة الدمشقية، وما رافق عهد المماليك من توسّع عمراني إلى العهد العثماني، إذ شُيّدت العديد من الأبنية في عهد السلطان سليمان القانوني، وتحدث عن دور الولاة في التطور العمراني.
ثم ذكر العديد من أبنيتها العمرانية المتمثلة بجوامعها مثل جامع سنان باشا ومئذنته الأسطوانية وجامع الجوزة وجامع السنجقدار ومدارسها، منها المدرسة الظاهرية والجقمقية متحف الخط العربي الآن، وحماماتها مثل حمام الورد، وأسواقها مثل سوق الحميدية وسوق الخياطين وسوق ساروجة وسوق علي باشا للخضار والفواكه، بالإضافة إلى خاناتها مثل خان الجمرك والسفرجلاني وإلى العديد من التُرب والآثار، وتابع عن توافد الأقوام الأخرى إليها مثل الأرمن وما ترافق من نشوء أحياء جديدة مثل حيّ القصاع، كما توقف عند تاريخ جبل قاسيون وامتداده إلى نصفين في العصر الحالي، إلى حيّ المهاجرين وركن الدين.
وخلال سرده التاريخي، أشار إلى أن سورية أول بلد عربي استخدمت الهاتف في عام 1911، واعتمدت على خمسة خطوط للترام والسادس إلى دوما، ليخلص إلى ضرورة الحفاظ على الطابع العمراني لدمشق أجمل عواصم العالم القديم والحديث.
ومن المداخلات ما أشارت إليه الباحثة باسمة عرابي عن وجود مغاور في أعلى جبل قاسيون، مازالت تسكنها بعض العائلات بعد أن تمّ تشييد بيت داخلي ضمنها، وعقبت على ما يحدث بهدم بعض البيوت وبناء عمارة ضمن البيوت القديمة التي يعود تاريخها إلى القديم ما يشوّه التراث العمراني لهذه المنطقة.