غزة تقلب نظريات الحروب جميعها
ريا خوري
الحرب الدامية، والحصار البري والبحري والجوي على قطاع غزة الذي يضمّ نحو مليوني مواطن فلسطيني على أرض مساحتها لا تتجاوز 360 كم مربع ما يزال مستمراً، لتجسّد تلك الحرب في أبعادها واستحقاقاتها ومتغيراتها الداخلية والإقليمية والدولية النظريات التي كتبها الخبراء العسكريون عن الحرب.
ما نشهده اليوم من حرب مدمرة وتطهير عرقي وإبادة جماعية ليست الحرب الأولى، فقد سبقتها خمس حروب منذ عام 2008، وهو ما يعني أن هذا الجزء الأصغر في العالم والأكثر كثافة سكانياً، شهد كل ثلاثة أعوام حروباً دامية مدمرة غير متكافئة بين الكيان الصهيوني ككيان قوي ومدعوم من الدولة الأكبر في العالم، وبين مقاومة فلسطينية تهدف إلى رفع الحصار والتجويع والحرمان وإنهاء الاحتلال.
الحروب السابقة لم تحقّق أهدافها السياسية، ولم يتمكن الكيان الصهيوني من فرض سياساته على الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة، والحرب الحالية، وعلى الرغم من دخولها العام الثاني أيضاً، لم تحقق أهدافها السياسية على الإطلاق، وبلغة الحرب وتحديداً الحروب الإستراتيجية فهي حروب فاشلة هدفها فقط التدمير والإبادة والتطهير العرقي.
خطورة الحرب التي بدأت في السابع من تشرين الأول العام الماضي أنها حوّلت قطاع غزة إلى منطقة غير صالحة للحياة، وهذا هدف الكيان الصهيوني الغاصب من الحرب، أي تحويل قطاع غزة إلى بيئة طاردة لأبنائها، خاصةً وأنها قبل الحرب المدمرة كانت غزة تعاني من الفقر والبطالة التي بلغت نسبتهما أكثر من 50%، وتعاني من الحصار الشامل من خلال تحكم الكيان في كلّ منافذ القطاع البرية والبحرية والجوية، ما يعني أن قطاع غزة يقدّم نموذجاً صارخاً لسيادة منطق القوة والمنعة وعدم الثقة السياسية وتراجع منظومة الأخلاق والقيم الديمقراطية والإنسانية، وتحوّلها لبيئة غير قابلة للحياة وخارج نطاق العيش الآدمي.
الهدف الآخر للعدو الصهيوني أنه بتدمير قطاع غزة يهدف إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية بتحويلها لمجرد قضية إنسانية لأناس يبحثون عن الطعام والشراب، وليس لقضية وجود وحقوق شرعية وتاريخية ودينية. وكلّ ذلك يجري أمام مرأى العالم، الصامت، بل والعديد من دول العالم تدعم هذا الكيان لتنفيذ مجازره البشعة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان.
لقد بات قطاع غزة، من خلال الحرب عليه الآن، يشكّل نموذجاً خاصاً لكلّ النظريات الشارحة والمفسّرة للعلاقات الدولية، وتحولات القوة والصراعات والنزاعات والتحالفات الدولية، واتساع نطاق الحروب الساخنة في العالم، وتفتح المجال للحرب الإقليمية وحتى الحرب الكونية، والمثال واضح على اتساع الحرب لتشمل لبنان ليس جنوبه فقط، وإنما كامل لبنان وإيران، وسيادة نظرية الأمن والبقاء، والدولة القومية التي تعلو على نظريات الأمن والأمان، والسلام والشرعية الدولية لتفسح المجال أمام القوة والعنف، وتبرير الحرب تحت غطاء من الحق في الدفاع عن النفس، أو ما يمكن تسميته من وجهة نظر أنصار الحروب الدامية والمدمرة بــ(الحرب العادلة).
لقد كشفت هذه الحرب غير العادلة، وغير المتكافئة كلّ التناقضات الدولية، وضعف المنظمة الدولية من خلال هيمنة حق النقض (الفيتو) الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن، وضعف الشرعية الدولية، وافتقارها للقوة التي تمكنها من تحقيق ما تصدره من قرارات وقوانين. كما تفتح الأبواب أمام الحروب الإقليمية الواسعة والشاملة التي يمكن أن تقود إلى الحرب العالمية الثالثة.
إذاً ما يجري في قطاع غزة اليوم يختزل القضية الفلسطينية، كما يقدّم القطاع بكل مدنه وبلداته وقراه التفسير التاريخي لتراجع القضية الفلسطينية في سلم الأولويات والأجندات العربية والإقليمية والدولية الراضخة للمشروع الصهيو- أمريكي، وذلك لغلبة القضايا الصعبة والمعقّدة، وحجم المشكلات والتحديات التي تواجه دول المنطقة والنظام العربي كله.
والأهم من كلّ ذلك أنّ القطاع بحروبه المتتالية قدّم لجميع العاملين في المجال السياسي والدبلوماسي والعسكري نموذجاً لإشكالية العلاقة بين نظرية التفاوض والسلام (الاستسلام) ونظرية المقاومة الوطنية كوسيلة لتحرير فلسطين وإنهاء الاحتلال الصهيوني وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.